تتعرّض المفاهيم التّقليدية التّي نشأت عليها البشرية والمتعلّقة بـ«الأب» و«الأم» وحقلهما الدلالي الواسع، والتي كانت تلحم الأسرة باعتبارها أهمّ إبداع بشري مجتمعي اعتبر اللّبنة الأساسية للتّجمعات البشرية، سواء في بدائيتها أو في تحضّرها، إلى تغيّرات مذهلة في الأزمنة الحديثة نتيجة توسّع مفهوم الحريّات الشّخصية من جهة، ونتيجة التّطور التّكنولوجي، بطفرته الكبرى في عصرنا، طفرة الذّكاء الاصطناعي، من جهة أخرى.
مفهوم الأب ذلك المفهوم المتعارف عليه عبر تاريخ المجتمعات، الأب باعتباره ذلك الإنسان الذي يتولد من نطفته كائن حي، وهو السبب في إيجاده وظهوره. فالأبوة رابطة بيولوجية وروحية بين والد وما ولد. ولا يخفى أن الغبش في تصور مفهوم الأب، قد تترتب عنه نتائج شرعية وقانونية.
واليوم، نحن بإزاء ثورة تكنولوجية كبرى وفرّت ما أصبح يسمى بـ«الرحم الاصطناعي»، وهو عنوان الكتاب الأخير لمعالي الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي، الذي يشير فيه إلى تخلي الصين عن الأمهات، لوجود بديل قوي لإنتاج الأطفال، بحيث أصبح التساؤل مدوياً «هل ستنهي تكنولوجيا الأرحام الاصطناعية الحاجة إلى الحمل البشري؟»، وبالتالي، هل بعد الالتباس الواقع في مفهوم الأب، ستقضي هذه التكنولوجيا على هذا المفهوم الذي ظل الأقرب إلى عواطفنا وجماليات حياتنا، مفهوم الأم، الذي يطلق على الحقيقة على الوالدة، ومجازاً على الأصول الإناث. لتلتقي هذه الدلالات في أن الأم هي التي توفّر بويضات الإخصاب؟ أم أن هذه التكنولوجيا وهي تعطي «فرصة للأزواج، الذين يصابون بالعقم، لتجربة الحمل والإنجاب»، تسهم في توسيع مفهوم الأمومة؟
لكن، هل نحن أمام واقع أم أمام خيال علمي كما تساءل الأستاذ السويدي نفسه، خاصة أن برنامج «الرحم الاصطناعي» لا يزال في مرحلة التجريب على الحيوانات كما يقول، وإن كانت هذه التجارب تُخلّف وراءها كثيراً من الصدى الحسن؟
لا ريب أن تاريخ العلم يعلمنا أن الخيال من المحركات الكبرى للمعرفة العلمية، إذ إن كثيراً من الاختراعات التي تشهدها البشرية اليوم، لم تكن من قبل إلا ضرباً من سرد خيالي ممتع، يُحْكَى على سبيل التَّسلية والغرابة، فهل سيأتي يوم نرى جيلاً جديداً «يتمتع بقوى غير طبيعية وصفات بيولوجية وعقلية خاصّة يختارها القائمون على هذه التّقنية عن طريق التّلاعب بالصّفات الوراثية أو زراعة جينات معينة، أو تعديلها» مما قد يؤدي إلى «خلق كائنات هجينة لا يمكن السّيطرة عليها»، كائنات تشبه البشر وليست من البشر لافتقارها إلى التّعاطف والموجهات الأخلاقية، الأمر الذي قد يؤدي لا محالة إلى «تهديد الأمن البشري».
إن الرحم الاصطناعي هو من المفارقات الكبرى في عصرنا اليوم فإذا كان رحماً قميناً بأن يحلَّ عقد كثير من الحالات المرضية المتشابكة خاصة في مجال العقم، ومجال علوم زراعة الأعضاء الذي طُوّر تطويراً ملحوظاً، كما نبه على ذلك صاحب الكتاب، فإن هذا الرّحم سيزيد من تعميق الهوة بينا وبين مفاهيمنا التقليدية التي نشأت عليها البشرية ولحمت أفرادها عبر تاريخها الطويل، مفاهيم الأبوة والأمومة والقرابة المُلْحمة. إن الكتاب الأخير للأستاذ الدكتور جمال سند السويدي بقدر ما يُشعرنا بأهمية التّطورات التّكنولوجية في مجال الرحم الاصطناعي، بقدر ما يحذّرنا من مغبّة فقدان السيطرة على مستقبلنا ووجودنا البشري.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.


