مرة أخرى، أثار خمسة أعضاء بلجنة نوبل في أوسلو، اختارهم البرلمان النرويجي، جدلاً واسعاً بعد إعلان اختيارهم للشخصية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، الجائزة الأشهر في العالم. وجاءت هذه الضجة لأسباب وجيهة، فالفائزة للعام الحالي، ماريا كورينا ماتشادو (من فنزويلا)، تستحق الجائزة بجدارة، كما قالت اللجنة، والتي ذكرت في بيانها إن «ماتشادو» معروفة بعملها الدؤوب في تعزيز الديمقراطية، وهي لم تزل مطاردة، ومع ذلك ظلّت تقود المعارضة، وتمنح الأمل للفنزويليين ولكل من يؤمن بالحرية.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل مرشح لم تُدرجه اللجنة عمداً، وهو الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فقد أدى ترامب القسم الرئاسي الثاني قبل 11 يوماً فقط من الموعد النهائي لترشيحات للحصول على جائزة نوبل، وبالتالي لم يكن من المنطقي أن يفوز بجائزة عام 2025، حتى ولو نجحت جهودُه الأخيرة الجديرةُ بالثناء لإحلال السلام في غزة. غير أن لجنة أوسلو منحت الجائزةَ بشكل تقديري للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في عامه الأول من الحكم عام 2009، وهو قرار اعترفت اللجنة لاحقاً بأنه كان متسرعاً وبدا مثيراً للسخرية بعض الشيء. أما ترامب، فمازال مولعاً بالأمر، إذ استنتج بطريقة ما أن منح الجائزة لأوباما يمنحه هو أيضاً أحقيةَ بنيل نوبل الآن. لذا أقدم ترامب على فعل غير مسبوق في تاريخ الجائزة الممتد 124 عاماً، حيث أطلق حملة ضغط عالمية، جنّد فيها مؤيديه في الداخل والخارج لترشيحه ودعمه، وواصل القول بأنه «صانع سلام»، بل وجّه بين حين وآخر تهديداتٍ مبطنةً للجنة في حال تجاهلت ترشيحه. وقال في خطابه أمام الأمم المتحدة الشهر الماضي: «الجميع يقول إنني أستحق جائزة نوبل للسلام». ثم استبق الأمر أمام جمع من الجنرالات والأميرالات الأميركيين قائلاً بغضب: «سيمنحونها لشخص لم يفعل شيئاً يُذكر». بل اعتبر أن تجاهله سيكون «إهانة كبرى» ليس له فحسب، بل للولايات المتحدة ككل. وفرض رسوماً جمركية بنسبة 15% على النرويج ضمن الجولة الأولى من الحرب التجارية العالمية، ولا أحد يعلم إلى أين قد تصل الجولة الثانية.
وكان ألفريد نوبل، العالم السويدي متعدد اللغات، الذي يشتهر باختراع الديناميت، قد نص في وصيته على أن تُمنح الجائزة لمن قام خلال العام «بأعظم أو أفضل عمل من أجل تحقيق الأخوة بين الأمم».
وتتناقض أساليب ترامب وطرائقه مع البيئة الاسكندنافية المُتسمة بالعقلانية والبساطة لجوائز نوبل، حيث تُمنح الجوائز الخمس الأخرى في السويد. وقال أحد الأساتذة النرويجيين لوكالة بلومبيرغ: «من الناحية الثقافية، يُمثل ترامب نقيضاً للنرويج». لم يُرد ألفريد نوبل أن تُمنح أوسمته للأشخاص الأكثر صخباً والأكثر نفوذاً، فالمرشحون المثاليون لا يطلبون أي تقدير شخصي، ويركزون على نشر الأخوة بهدوء.
والواقع أن ترامب يسعى بصدق إلى السلام في أماكن من الشرق الأوسط، وهو سلام يبدو واعداً الآن، وفي أوكرانيا التي لا تبدو كذلك حالياً، مروراً بأفريقيا وآسيا، حيث يظل دوره موضع نقاش.لكن في المقابل، يرسل ترامب قوات إلى المدن الأميركية، ويهدد الحلفاء من كندا إلى الدنمارك، ويستهدف الزوارق السريعة في منطقة البحر الكاريبي، ويهدد بشن حرب على فنزويلا، ولعله لا يشترك مع «ماتشادو» في شيء سوى عدائهما المشترك لمادورو. ورغم أن «ماتشادو» تؤيد الضغط الأميركي على مادورو، فإنها ترفض أي تدخل عسكري أميركي لإطاحته. وسواء أعاد تسميةَ وزارة الدفاع «وزارة الحرب» أو نظم عروضاً عسكرية على الطريقة اللاتينية، فإن ترامب يبدي ولعاً بالحرب بقدر ولعه بالسلام.
لكن لجنة نوبل تعيش في عالم الواقع، حيث الطبيعة البشرية ومسائل الحرب والسلام معقدة للغاية، بحيث لا يمكن إدراجها في ميدالية ذهبية واحدة. وقد خيّم الجدل والتناقض على الجوائز منذ عام 1901.
ولعل ذلك التساؤل: هل استحق ثيودور روزفلت الجائزة عام 1906 لتوسّطه في إحلال السلام بين روسيا واليابان؟ لقد مارس الكثيرَ من التسلط أيضاً. وهل كان هنري كيسنجر الاختيارَ الأمثل للجائزة عام 1973؟ صحيح أنه أبرم اتفاق وقف إطلاق النار في فيتنام، بمشاركة الزعيم الشمالي «لي دوك ثو»، والذي تقاسم الجائزةَ معه لكنه رفض استلامَها، إلا أن كيسنجر نفسه أشرف على قصف لاوس وكمبوديا.
وبوسعنا أن نضيف إلى النقاش ياسر عرفات من فلسطين، أو آبي أحمد من إثيوبيا، ثم نتساءل: لماذا لم يفز المهاتما غاندي بالجائزة رغم ترشيحه خمس مرات؟
الجواب أن الحالات كلها معقدة، مثلها مثل حالة ترامب الحالية. ومع فتح باب الترشيحات لجائزة عام 2026، فهذه نصيحتي غير المطلوبة للرئيس:
أولاً، ينبغي الكف عن التفاخر والتهديد والمطالبة بالجائزة علناً، فاللجنة قادرة على ملاحظة الجهود المستحقة. ثانياً، عند رسم السياسة الخارجية، لا ينبغي التفكير في «كيف ستبدو على شاشة التلفزيون»، بل في ما يُنقذ الأرواحَ اليومَ ويمنع الحروبَ غداً. وإذا تمكنتَ بالفعل من إحلال السلام في غزة، فذلك لأنك مارست أخيراً ضغطاً حقيقياً على حركة «حماس»، وأيضاً على إسرائيل. وعليك تجربة النهج نفسه بين روسيا وأوكرانيا. كما يتعين عليك أن تكون أكثر وداً مع حلفائك، فأنت بحاجة إليهم لردع الخصوم، والردع عنصر أساسي في حفظ السلام. والأهم، حاول حشدهم جميعاً لبدء محادثات حول الحد من سباق التسلح النووي المتجدد.
لو كان الحديث عن الحرب والسلام أمراً يسيراً، لما احتاج الروائي الروسي ليو تولستوي إلى أكثر من ألف صفحة لكتابة روايته الأشهر «الحرب والسلام». وسيحتاج ترامب إلى أضعاف هذا العدد من الكلمات لكتابة إرثه، لا في نشرات الأخبار القادمة فحسب، بل على مدى العقود المقبلة.وفي الوقت الحالي، يجب توجيه التحية لماتشادو والفنزويليين وكل من يُحب الحرية في أي مكان من العالم. أما بالنسبة لترامب، فإذا بدأ يكرّس نفوذه الهائل لخدمة الأخوّة بين الأمم، فسأُهتف له بأعلى صوتي عند قبوله جائزة نوبل للسلام عام 2026، أو في أي عام آخر.
*كاتب متخصص في قضايا الأمن القومي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»


