تطلّ علينا أعياد الميلاد كل عام، ومعها تطلّ مشاهد القتل والتفجير والترويع التي لا تفرق بين طفل وشيخ، أو رجل وامرأة. تحولت مدننا إلى ثكنات عسكرية يسكنها الخوف، وتتعالى صرخات العائلات المكلومة التي دُمر مستقبلها في لحظة غدر. وأمام هذه البشاعة، لم يعد الصمت خياراً، ولم يعد التبرير مقبولاً، بل أصبح التأجيل جريمة في حق الإنسانية. إن الإرهاب اليوم ليس مجرد حوادث عابرة، بل هو آفة عالمية مدمرة تتطلب استجابة فورية.

فوفقاً للمؤشرات الدولية، يسقط آلاف الأبرياء ضحية لهذا الفكر، ناهيك عن التكلفة الاقتصادية والأمنية التي تُقدر بمئات المليارات، والأهم من ذلك، الدمار النفسي والاجتماعي الذي يفتك بالمجتمعات. إن هؤلاء القتلة الذين يتحدثون بلغة دينية متشددة، لا يسيئون للبشر فحسب، بل يسيئون للخالق نفسه. فالله، كما تؤكد وثيقة الأخوة الإنسانية، «لم يَخْلُقِ الناسَ ليُقَتَّلوا أو ليَتَقاتَلُوا أو يُعذَّبُوا أو يُضيَّقَ عليهم في حَياتِهم ومَعاشِهم، وأنَّه - عَزَّ وجَلَّ - في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه». ليست المواجهة التي نعيشها اليوم مجرد صراع أمني أو حادثة عابرة يمكن احتواؤها ببيانات الإدانة والتعزية.

إنها معركة عميقة بين ظلامٍ يصرّ على فرض منطقه، وإنسانيةٍ تحاول الدفاع عن حقها في الحياة. معركة بين البربرية والحضارة، بين الباطل الذي يبرر الموت، والحق الذي ينحاز للحياة. وفي مثل هذه المعارك، لا يكفي أن ندين، بل يجب أن نفهم، وأن نعترف، وأن نغيّر. أول ما يتطلبه هذا الطريق هو الاعتراف الصريح بالمرض، وبأن التطرف ليس أخطاء فردية ولا حالات شاذة يمكن عزلها عن السياق العام، بل هو مرض فكري ومجتمعي وديني له جذور واضحة ومنظومة متكاملة من التبريرات. التقليل من حجمه أو تسويغه تحت عناوين براقة لا يؤدي إلا إلى إدامته.

 

الاعتراف بحقيقة المشكلة وبخطورتها هو الخطوة الأولى نحو العلاج، وهو يتطلب شجاعة تسمية الأمور بأسمائها، والتحرر من أسر ما يُسمّى بالكياسة السياسية «politically correct» التي تعمينا عن رؤية الواقع كما هو. لا يمكن علاج ما نخشى الاعتراف بوجوده. من الاعتراف، ننتقل إلى الفعل، فمحاربة التطرف لا تكون بمطاردة نتائجه، أو علاج أعراضه فقط، بل بتجفيف منابعه، واستئصال أسبابه. المطلوب هو معالجة الأسباب العميقة التي تغذّيه، ووقف كل أشكال الدعم المادي واللوجستي والفكري الذي يسمح له بالاستمرار.

ويشمل ذلك تفكيك البنى الاجتماعية والمنظمات السياسية والدينية التي تحوّل بعض اللاجئين أو المتغربين إلى مجتمعات منغلقة على نفسها، تعيش في عزلة فكرية تشبه «جيتوهات»، ومشاتل الكراهية. كما يتطلب الأمر ملاحقة مصادر التمويل، سواء جاءت عبر تبرعات فردية أو دعم رسمي غير معلن، ومحاسبة كل من يستغل التعليم أو الدين لنشر الكراهية والتعصب تحت أي ذريعة. فالأيديولوجيات المتطرفة لا تُهذّب ولا تُجمَّل، بل تُستأصل. في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة الاعتبار لدور المؤسسات المدنية. لقد آن الأوان للتخلي عن فكرة أن المؤسسات التي ساهمت تاريخياً في إنتاج خطاب متشدد قادرة وحدها على تصحيح مساره. المسؤولية اليوم تقع على عاتق المؤسسات المدنية الرسمية، والإعلامية، والتعليمية المعتدلة، كي تستعيد زمام المبادرة والخطاب العام. هذه المؤسسات مطالبة بتقديم رؤى مستنيرة، وتعزيز قيم الرحمة والسلام والمواطنة، وتفكيك الحجج التي يتسلح بها المتطرفون بلغة علمية هادئة ومقنعة. ولا يمكن تحقيق ذلك دون استثمار حقيقي في تدريب المعلمين والمربين على ثقافة التعددية واحترام الاختلاف.

غير أن الخطاب وحده لا يكفي ما لم يسنده القانون. فالإدانة الشفوية لم تعد ذات جدوى في عالم تحكمه الوقائع. المطلوب هو تفعيل القوانين الوطنية والتشريعات الدولية التي تجرّم التحريض على الكراهية والعنف والتطرف، سواء في الواقع أو في الفضاء الرقمي. العدالة يجب أن تكون ناجزة وحازمة، والمحاسبة واضحة وصارمة، مع الالتزام الكامل بمعايير حقوق الإنسان، حتى لا تتحول مواجهة التطرف إلى ذريعة لظلم جديد. يوازي ذلك ضرورة مراجعة شاملة للمناهج الدراسية والخطابات الدينية والمحتوى الإعلامي، وتنقية كل نص أو مضمون يحمل تفسيرات حرفية متشددة أو يشرعن إقصاء المختلف دينياً أو عرقياً. هذه المراجعة ليست حرباً على الإيمان، بل دفاعاً عن قدسية الحياة. فليس من حق أي إنسان أن يؤمن بموت الآخرين، أو يبرر إرهاب الأبرياء، أو يفرض معتقده بالقوة، أو يستخدم مفاهيم الحرية والديمقراطية للانقلاب عليهما.

في جوهر كل ذلك، يبقى التعليم هو خط الدفاع الأول والأهم. نحتاج إلى مناهج تعليمية تؤسس للمواطنة المتساوية، وتغرس التفكير النقدي، وتعلّم التحليل المنطقي، وتحترم القانون، وتحتفي بالتنوع بوصفه مصدر قوة لا تهديد. تعليم يعرّف الأجيال بتاريخ الحضارات المشترك، وبقيمة الحوار، وبأن الاختلاف سنة إنسانية لا مبرر للخوف منها. فحين ينتصر ختاماً، إن القضاء على الفكر المتطرف هو واجب إنساني وأخلاقي ووجودي وديني. لا يمكن لمجتمع أن يزدهر تحت سيف الكراهية. علينا أن نختار الحياة، وأن نرفض أن نكون ضحايا لصمتنا، وأن نجرّم كل قول أو عمل يقلل من بشاعة التطرف أو يساوي بين الضحية والجلاد.