لا يمكن الإحاطة بحقيقة الدور الذي تنهض به الإمارات في التصدي للعنف والتطرف من دون استحضار مرتكز فكري يتجاوز القراءات السطحية المباشرة، فمقاربتها لا تنظر إلى الراديكالية باعتبارها خللاً أمنياً فحسب، بل بوصفها انكساراً في الوعي الإنساني، واضطراباً في البوصلة الأخلاقية التي تهدي السلوك، إذ إن ظاهرة التطرف في أصلها أزمة فهم للحياة الإنسانية، واهتزاز في منظومة القيم التي تقوم عليها حياة الإنسان والمجتمع.

من هذا المنظور تشكّلت رؤية إماراتية تقود خطوات عالمية وإقليمية، تستند على مقاصد معرفية تعيد للعقل دوره وللقيم مركزيتها، فهي رؤية توازن بين حماية الوجود الوطني والإنساني وبين إضاءة المسار، إدراكاً أنَّ المنطقة تواجه موجات متجددة من محاولات تطويع الوعي وحبسه داخل أنساق مغلقة تُشوّه غاية الدين وتحوله إلى أداة صراع، وتختزل الفكر في ذرائع تؤسس للعنف.

في منظور فلسفة الغائية يتبدّى الإرهاب بوصفه انقطاعاً عن غايات الوجود، فهو لا يولد من فراغ، إنما من ذهنٍ فقد إدراكه للمعنى الذي تتجه نحوه الحياة. فحين تُختزل غاية الوجود والدين والدولة في رؤية أحادية أو مؤدلجة، ينغلق العقل داخل دائرة تُحوّل تلك المعاني إلى سلطة قسرية والغايات إلى مبرّر جاهز للعنف. منذ القدم قال أرسطو، إنَّ العيش معاً يقضي لتهذيب النفس وبناء الفضيلة، لا إنتاج صراعات أو أيديولوجيا متطرفة. ومن هذا الأفق تبدو التجربة الإماراتية تطبيقاً عملياً للغائية الرشيدة، إذ تُعيد ربط الفعل بالقيمة، وتُوجّه السياسات نحو حماية الكرامة الإنسانية وصيانة الوعي من الانجراف إلى سرديات مظلمة تُعادي المقصد الأخلاقي للدين والأوطان. 

وتكشف غائية الأيديولوجيا المتطرفة عن آلية تفكير تعمل على إعادة صياغة الوجود ضمن غاية واحدة مغلقة تقصي القيم، وتستبعد التعدد وتختزل الحقيقة في تصور قسري. فالتطرف لا يحدّد السلوك فحسب، بل هو يصنع غاية مُسبقة للإنسان تحوّل العالم إلى ساحة فرز وجودي بين «فرقة ناجية» و«مجتمع جاهلي». ومن هنا يكتسب العنف معنى غائياً، لا بوصفه وسيلة، وإنما هو طريق «ضروري» لتحقيق تلك الغاية. ولعلّ أكثر ما يُجسّد هذا الميل ما عبّر عنه عرَّاب التطرف ومنظّر الإرهاب في القرن العشرين سيّد قطب، قائلاً: «إننا اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام… بل أظلم».بهذا التصوّر تُعاد هندسة الواقع ليصبح الصدام غاية بحد ذاته، ويُمنح التطرف والإرهاب شرعية «دينية» تُلغي الإنسان وتُقصي الأخلاق، وتحوّل الأوطان والمجتمعات إلى ساحات عنف لا تنتهي.
إنّ المواجهة الجادة للتطرف والإرهاب لا تكمن فقط في أدوات الصَّد والردع، بل في تفكيك البنى الفكرية التي تمنح العنف معناه. وهنا تتجلى تجربة الإمارات كدولة أعادت صياغة معادلة المواجهة، حيث تبدأ من إعادة ضبط البوصلة الغائية، وتنتهي عند الردع بقوة القانون والمؤسسات. وعلى مستوى الشرق الأوسط، لم تقتصر مقاربة الإمارات على مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية، بل هدفت إلى تفكيك منظومة إنتاج التطرف ذاتها. لأن الإرهاب ليس حالة فردية عابرة، ولكن نتاج شبكة مترابطة من خطاب راديكالي متطرف، سرديات محوّلة، وتأويلات مضلّلة للنصوص الدينية والتاريخية، علاوة على غايات سياسية تستثمر في الفوضى. فبمقاربتها الشمولية، لا تُحارب الإمارات الإرهاب فحسب، بل تعيد بناء منطق المواطنة، والمجتمع، والتعايش، والأخوة الإنسانية. وتعيد العقل إلى مكانته الطبيعية في صياغة معنى الوجود، والدين، والدولة. 

وحين تختار دولةٌ أن تتموضع في قلب معركة الوعي، لا في هوامش ردّة الفعل، يصبح من الطبيعي أن تصطدم بمنظوماتٍ تقوم مصالحها على إعادة إنتاج الجهل والكراهية. فالمشروع الإماراتي، بوصفه مشروعاً لبناء إنسان واعٍ ومجتمع مستقر، لم يكن مجرّد استجابة دفاعية، بل فعل تأسيسي يُعيد تعريف غائية المجتمعات والدولة في المنطقة، ومن ثمّ غدا هدفاً، لأنّه يهدّد البُنى التي تتغذّى على الفوضى الفكرية والانكسار الحضاري، لذا تأتي حملات التشويه الممنهجة ضد الإمارات من موقع استشعارٍ عميق بأن نموذجها وخطابها يكافح جذر الأيديولوجيا المتطرفة. هذه الحملات ليست سوى محاولة لإعادة ترميز أوهام مشاريع الإسلام السياسي والجماعات الإرهابية كبدائل عن الدولة الوطنية.من هذا المنطلق تعمل الإمارات كقوة حضارية تحيي القيم والغايات الكبرى، وتعيد توجيه البوصلة الأخلاقية في المنطقة. لتصبح غايتها ترسيخاً لسلامٍ يحفظ كرامة الإنسان، واستقرار يدفع عجلة التنمية في الأوطان.
*كاتب إماراتي.