كان حدثا مثيرا للغثيان، ويبعث على الغرابة،·· تابعت المقابلة التي بثتها قناة العربية الأسبوع الماضي، شعرت باشمئزاز وأنا أستمع إلى السيد عبدالحليم خدام يسوق الأطروحات حول العولمة والديمقراطية والمشاركة وحقوق الإنسان، ومبعث الغرابة والاشمئزاز أن السيد خدام يمثل مرحلة عربية مظلمة، كان خدام أحد اللاعبين الأساسيين في بلد أساسي، بل كان يحكم أكثر من بلد أساسي في آن واحد ولعقود -سوريا ولبنان، ولكن الدولتين عاشتا في عهده عصرا مظلما انتهكت فيه كل حقوق الإنسان، وعبث خدام وحزبه فيها بالإنسان، وانتهكوا آدميته وإنسانيته لعقود، لا بل إن خدام هو الرئيس الوحيد في التاريخ الذي تحولت الجمهورية في عهده إلى حكم وراثي جمهوري···
ولكن لماذا ظهر خدام بعد هذه المدة الطويلة ليتحدث عن مبادئ سامية كان أحد من هدمها وانتهكها؟ وللإجابة يمكن أن نجمل الأسباب كالآتي:
1- يرى السيد خدام أن القطار يسير بالنظام السوري نحو الهاوية، فآثر القفز منه قبل فوات الأوان، ولكن هل فات الأوان بالنسبة له حقا؟ هذا ما سوف تجيب عنه الأيام القادمة·
2- السبب الثاني يكمن بأن خدام حسب بثعلبيته السياسية أنه قد يكون في الأفق صفقة، وقد يكون تحت الطاولة شيء آخر غير ما هو معلن في لجان التحقيق الدولية، وأنه قد يكون أحد ضحايا الصفقات المتوقعة، فآثر أن يتغدى بنظامه قبل أن يتعشى به، وذلك بضمانات تضمن سلامته، وعدم تسليمه لنظامه الذي أداره لعقود·
3- هناك سبب شخصي دفع خدام إلى كشف المستور، وفتح المغلق من الملفات، فقد وضعه حزبه ونظامه على الرف في المؤتمر الأخير للحزب والذي عقد قبل ستة أشهر، وجرده من كل صلاحياته التي كانت مطلقة، وذلك ضمن صراعات الأجنحة المختلفة في النظام السوري· وخدام كان يحكم سوريا لسنين طويلة، بل إنه حكم سوريا رئيسا لها بعد وفاة الأسد الأب، ولذلك فلخدام ثأر شخصي اليوم مع من أزاحوه وسحبوا صلاحياته، ومن بينهم الشرع وغزالة، بل والرئيس بشار الأسد نفسه، ويبدو أنه أدرك بأنه لا أمل بالعودة إلى الماضي القريب، الذي كان يشكل فيه الحكومات، في لبنان، ويدير الشأن الخارجي السوري، كما يدير أعماله داخلها وخارجها·
كانت ردة الفعل السورية الرسمية على المقابلة تدعو للرثاء والشفقة، فقد جاءوا بمسرحية مجلس الشعب في ليلة رأس السنة، وردحوا دون استثناء إدانة لخدام، وخونوه، وطالبوا بتطبيق عقوبة الخيانة عليه -وهي الموت شنقا، ولم يكونوا ليدركوا أنهم كانوا يدينون أنفسهم في نفس الوقت الذي أدانوا فيه خدام، وتطاول بعض أعضاء مجلس الشعب وتلفظوا على قناة العربية بألفاظ مخجلة، وبلا سبب مقنع، فلا يزال اللقاء الصحفي مع خدام حدثا مهما لأهمية الرجل حتى وقت قريب، وكل ما فعلته قناة العربية أنها عملت عملا يعد سبقا صحفيا مهما وممتازا···
كان يمكن للحكومة السورية أن تذيع بيانا رسميا ترفض فيه ما قاله خدام، وتطالب بتسليمه للتحقق مما قال، إضافة إلى التحقق من قضايا فساد تمت طمطمتها -حسب أعضاء مجلس الشعب- من قبل خدام نفسه، وأن يتم تجاهل ما قاله، أو على الأقل ألا يعطى كل هذه الأهمية، ولكن قديما قيل: ''الصراخ، على قدر الألم''·
علينا جميعا أن نعلن من الآن، وننشر بيانا وتعميما لجميع المسؤولين الحاليين في عالمنا العربي العتيد، أن يعلنوا براءتهم من جرائم أنظمتهم قبل إقالتهم ووضعهم على الرف، ومن ينتظر حتى يعلن توبة ''خدامية'' -نسبة إلى السيد خدام- فلن تقبل منه، وعلى الحاضر أن يبلغ الغائب·