يرى العديد من خبراء القانون الدولي أن الحكم الذي صدر مؤخراً عن المحكمة الدولية العليا التابعة للأمم المتحدة، والذي ينتقد صربيا بمقتضى اتفاقية منع الإبادة الجماعية، يُعقِّد أكثر عملية إعادة تأهيل صربيا دبلوماسياً، على اعتبار أن من شأن قرار "محكمة العدل الدولية" أن يُقيد ويلزم دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي و"الناتو"، اللذين ما فتئت علاقاتهما مع صربيا تزداد وتنمو. ذلك أنه بالرغم من أن المحكمة وجدت أن صربيا لم تكن مسؤولة بشكل مباشر عن جريمة الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في حق نحو 8000 مسلم بوسني عام 1995، فإنها اعتَبرت في الوقت نفسه أنه "كان بمقدورها ومن واجبها" أن تمنع هذه الجريمة، مثلما تنص على ذلك "اتفاقية الإبادة الجماعية". وفي هذا الإطار، يقول "أنتونيو كاسيس"، الرئيس السابق لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي، الذي يُدرس القانون حالياً في إيطاليا، "إن تحميل صربيا مسؤولية خرق اتفاقية جريمة الإبادة الجماعية يخلق ضغوطاً جديدة عليها"، مضيفاً "إن الأمر ينطوي على حمولة أخلاقية كبيرة؛ وبالتالي، يمكنه أن يطرح عدة عراقيل بالنسبة لبلغراد، اللهم إلا إذا تصرفت بسرعة وشرعت في عمليات القبض" على المتهمين الرئيسيين بارتكاب جرائم الحرب، الذين مازالوا طلقاء رغم أنهم متهمون بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وقد أمر القضاة صربيا بأن تقوم بتسليم "الأفراد المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية"، إضافة إلى أولئك المتهمين بجرائم أخرى، والذين مازالت محاكماتهم معلقة في "محكمة يوغوسلافيا السابقة" التابعة للأمم المتحدة في لاهاي. وبعيد صدور الحكم، بادرت كبيرة ممثلي الادعاء العام، "كارلا ديل بونتي"، بإرسال رسالة إلى دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين قصد إبلاغها بالحكم. وخلال نطق الحكم في السادس والعشرين من فبراير المنصرم، قال القضاة الخمسة عشر إنه بالنظر إلى تخلف صربيا عن تسليم الأشخاص المتهمين بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، وفي مقدمتهم زعيما صرب البوسنة "راتكو ملاديتش"، و"رادوفان كاراديتش"، فإن بلغراد خرقت بذلك اتفاقية جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، التي تنص على اعتقال ومعاقبة الجناة. ويرى الخبراء القانونيون أن الحكم ينطوي على تأثيرات وتداعيات تفوق في مداها حدود صربيا، على اعتبار أن أي بلد يؤوي "ملاديتش" أو "كاراديتش" سيُنظر إليه باعتباره خارقاً للاتفاقية. وفي هذا السياق، يقول "ديفيد شيفر"، أستاذ القانون بجامعة "نورث ويسترن" في شيكاغو: "إنها مشكلة كبيرة تنطوي على تداعيات دولية لأنها تؤكد على أن لكل الدول واجب اتخاذ ما يلزم في حق الأشخاص المتهمين بارتكاب الإبادة الجماعية"، و"من ذلك اعتقالهم". كما يرى "شيفر" أن القرار سيؤثر أيضاً على هاربين آخرين مثل المتهمين بارتكاب جريمة القتل الجماعي في رواندا، الذين يوجدون في حالة فرار. وبالمقابل، لا يستبعد خبراء آخرون أن تكون للقرار تداعيات على أعمال العنف الدائرة في دارفور، والتي تصفها الولايات المتحدة بالإبادة الجماعية. وقد جاء حكم "محكمة العدل الدولية" رداً على قضية مدنية رفعتها البوسنة ضد صربيا، وهو ما يمثل المرة الأولى التي يقاضي فيها بلد بلداً آخراً بتهمة الإبادة الجماعية في ما عُد أكثر القضايا تعقيداً في تاريخ المحكمة التي أنشأتها الأمم المتحدة قبل نحو 60 عاماً بهدف البت في النزاعات التي تنشب بين الدول. أما محكمتا يوغسلافيا السابقة ورواندا، فتعدان محكمتين جنائيتين تحاكمان الأفراد. القضاة وجدوا أن قوات صرب البوسنة ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية في حق المسلمين في سريبرينيتشا عام 1995. ومع أن المحكمة رأت أن روابط صربيا بقوات صرب البوسنة كانت وثيقة وثابتة، إلا أنها اعتبرت بأغلبية 13 صوتاً مقابل صوتين، أنها لا تتوفر على دليل يعلل تحميل صربيا المسؤولية المباشرة عن جريمة الإبادة الجماعية. وإذا كانت أقلية تتكون من أربعة قضاة قد رأت أن صربيا مذنبة بالتواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية، فإن أغلبية القضاة انتقدت صربيا لأنها لم تستعمل نفوذها وتأثيرها المهم لمنع الجريمة. وقد أثار الحكم، الذي تنوعت توصيفات خبراء القانون الدولي له بين "الخجول" و"الغامض" و"التوافق الذكي"، الغضب والاستياء في البوسنة؛ في حين خلف ارتياحاً في صربيا، التي أعفيت من دفع تعويضات الحرب التي كانت تطالب بها البوسنة. وقد وصف المسلمون البوسنيون، الذين يمثلون أغلبية ضحايا الحرب التي بدأتها صربيا ما بين 1992 و1995، الحكم بأنه "عار". أما الصرب في البوسنة، فقد عبروا عن قلقهم إزاء الحكم الذي حمّل قواتهم بشكل صريح مسؤولة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية. وبموازاة مع ذلك، فقد قوت المحكمة "ديل بونتي"، كبيرة ممثلي الادعاء العام في محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا، التي ما انفكت تطالب باعتقال "ملاديتش" و"كراديتش" وثلاثة آخرين من زعماء صرب البوسنة. وفي هذا الإطار، بعثت "ديل بونتي" برسالة يوم الخميس إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تتولى بلادها حالياً الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أشارت فيها إلى قرارات المحكمة، وطلبت من ألمانيا العمل على ألا يستأنف الاتحاد الأوروبي محادثاته مع صربيا بشأن تعزيز علاقاتهما قبل تسليم المطلوبين. تقول "ديل بونتي" في رسالتها: "لديَّ أدلة قوية على أن "راتكو ملاديتش" و"رادوفان كراديتش" يوجدان في صربيا، تحت الحماية، وإنه من واجب الاتحاد الأوروبي أن يواصل ممارسة الضغوط على صربيا حتى تُسلم الفارين الخمسة المتبقين إلى المحكمة". ومما يجدر ذكره هنا أن الاتحاد الأوروبي كان حازماً في الإعلان عن أنه لن يبدأ محادثات العضوية مع صربيا قبل أن تُسلم هذه الأخيرة الأشخاص المطلوبين؛ غير أن عدداً من الدول، مثل بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا، فضلت مؤخراً تبني موقف أكثر مرونة يرى أن من شأن محادثات العضوية أن تقوي المعتدلين في حكومة بلغراد وتدعمهم، وأن تعاون صربيا ضروري ومهم للحسم بشأن الوضع المقبل لإقليم كوسوفو. ــــــــــــــــــــــ مراسلة "نيويورك تايمز" في لاهاي ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"