حركة الترجمة في الصين
تحظى حركة الترجمة من اللغات الصينية إلى اللغات العالمية الأخرى وبالعكس، برعاية واهتمام غير مسبوقين في الصين، وذلك من منطلق الإيمان العميق بأن أية خطوة نحو دفع البلاد إلى الأمام في ميادين النهضة والتقدم لا يمكن لها أن تنجح دون معرفة كنه وأسرار فلسفات ونظريات وعلوم الآخر الأكثر تقدماً. والملاحظ أو المتتبع لهذه الحركة يكتشف بجلاء تغيراً واضحاً في سياسات النظام الحاكم حيال الترجمة، وتحديداً منذ أن قرر هذا النظام التخلي عن حساسية الانفتاح على الآخر المختلف أيديولوجياً، وما رافقها من سياسات وشعارات ظلت سائدة لزمن طويل تحت مزاعم المحافظة على الهوية الوطنية ومحاربة التغريب، وهي نفس المزاعم التي لا يزال البعض منا في العالم العربي يرددها إلى اليوم، ويستميت من أجل الدفاع عنها.
أما الدارس لتاريخ الترجمة في الصين، فإنه سيلاحظ ارتباطها العميق بأمرين: الأول هو تعريف الآخر بالحضارة والثقافة الوطنية الصينية ذات التاريخ الطويل والتعددية المدهشة، والثاني هو دخول البوذية إلى البلاد من الهند في منتصف القرن الميلادي الأول. حيث إن هناك من الوثائق والآثار والدلائل ما يفيد بأن أنشطة الترجمة بغرض التعريف بحضارة الصين قد مُورست في حقبة حكم سلالة "زهو" في عام 1100 قبل الميلاد، على يد موظفي الدولة وكتابها ممن استبد بهم شغف المعرفة بما يدور خارج حدود الصين، أو عشقوا الترويج لثقافة بلادهم وحضارتها. وبالمثل فإن هناك من الوثائق والدلائل ما يفيد بأن البوذية المكتوبة أصلاً باللغة السنسكريتية، ما كانت لتنتقل من الهند حيث ظهرت ابتداءً وعاشت طويلاً محصورة، وما كانت لتنتشر في أوساط الصينيين إلا بعد قيام أحد المترجمين الفُرس بفتح باب ترجمة الوصايا البوذية المقدسة من السنسكريتية إلى الصينية. وكان أول من استغل هذه الفرصة "زي كيان" الذي قام بترجمة 30 مجلداً من النصوص والتعاليم البوذية المقدسة، جاء جله مبهماً وغامضاً كنتيجة لاعتماد الرجل على الترجمة الحرفية أو النصية. على أن هذا الحدث قاد إلى حدث وتطور مهم هو فتح الباب على مصراعيه في أوساط المثقفين ورجال الدين لسجال طويل ما بين مؤيدي نظرية الترجمة الحرفية ومؤيدي الترجمة القائمة على ترجمة الفكرة أو جوهر الموضوع. ورغم استبسال المجموعة الأخيرة في الدفاع عن أفكارها ومرئياتها، فإن مطالبها لم تجد الصدى المطلوب إلا بعد ثلاثة قرون، أي في القرن الثامن الميلادي، ذلك أن الفترة السابقة لحلول القرن الميلادي الثامن لم تشهد سوى ظهور عملية تنظيم ترجمة الموروث الديني ممثلاً بالنصوص البوذية، وذلك من خلال مدارس رسمية على رأسها موظفون إمبراطوريون لا يجيدون السنسكريتية ويستعينون في أعمالهم برهبان بوذيين هنود مثل الراهب والمترجم الكشميري الشهير "كوماراجينا" والذي لعب دوراً حاسماً في تحرير حركة الترجمة في الصين من الجمود ودفعها إلى الأمام.
وهكذا فإن الحقبة من منتصف القرن الميلادي الأول (حقبة هان) إلى القرن الخامس الميلادي تُوصف في الصين على أنها حقبة البدايات المبكرة لظهور حركة الترجمة في البلاد، والتي كما رأينا بدأت لأغراض دينية بحتة وصاحبها سجال ما بين أنصار الترجمة الحرة والترجمة النصية. على أن الأمور صارت تأخذ منحى آخر أكثر وضوحاً وبروزاً في ظل حكم سلالتي "سوي" و"تانج"، أي ما بين عامي 618 و907 للميلاد، وهذه حقبة يجمع المؤرخون على أنها شهدت توسعاً وازدهاراً في مختلف العلوم والآداب والمعارف، وبلغت فيها الترجمة أعلى درجاتها ومستوياتها، على الرغم من استمرار ظاهرة هيمنة ترجمة نصوص الموروث الديني على ما عداها، وانحدار معظم المشتغلين بالترجمة من سلك الرهبان البوذيين.
بعد ذلك مرت فترة طويلة قبل أن يهجر الصينيون شغفهم بترجمة الموروث الديني لصالح ترجمة العلوم المفيدة، فمثلاً من حقبة حكم سلالة يوان (1271-1368) وحتى حقبة حكم سلالة مينج (1368-1644) فقدت ترجمة الموروث الديني البوذي أهميتها في الصين بسبب توجيه ملوك أسرة يوان أنظارهم نحو الغرب وعلومه ومعارفه.
وبالتزامن مع هذا التطور، كان بعض العلماء العرب قد قدم واستقر في الصين وتعلم اللغة الماندارينية، ناقلاً معه ما درسه من علوم ولغات وفلسفات أجنبية في عزّ ازدهار الدولة العربية الإسلامية. ومن أبرز الأسماء العربية في هذا السياق ناصر الدين الطوسي الذي ترجم إلى الصينية كتاب المنطق لأفلاطون، وكتاب آخر من اليونانية إلى الماندارينية حول العناصر الاقليدسية، فسن بذلك سنة مخالفة لبعض نظرائه العرب ممن انشغلوا بترجمة كتب الفقه والتراث والطلاسم. وفي أواخر حقبة حكم "يوان" تمت أيضاً ترجمة كتاب مهم ساهم في تعريف الصينيين بأكثر من 1400 نوع مختلف من الأدوية هو كتاب "الجامع في الأدوية المفردة". وفي حقبة سلالة "مينج" وبأمر من الإمبراطور "زهو يوان زهانج" قام اثنان من الحكماء العرب واثنان من نظرائهما الصينيين بترجمة كتاب هندي مهم في علوم الفلك، لكن الكتاب ظل قليل الفائدة في ضوء تخلف البلاد وأهلها بصفة عامة في تلك الحقبة. هذا التخلف الذي ظل سمة بارزة في الصين إلى حين حلول أواخر القرن السادس عشر الذي شهد وصول البعثات التبشيرية الغربية، والتي عمدت أول ما عمدت إلى ترجمة ونشر أعمال مفكريها وفلاسفتها في العلوم والآداب المختلفة، إضافة إلى ترجمة ونشر نصوص الكتاب المقدس بطبيعة الحال. وقد تولى هذه المهمة بنشاط في الفترة ما بين عامي 1582 و1773 نحو سبعين بعثة تبشيرية من أقطار مثل ايطاليا وفرنسا وسويسرا والبرتغال، وبمساعدة طائفة معتبرة من الصينيين ممن تحولوا إلى المسيحية لأسباب مصلحية، أو من الصينيين ممن درسوا في الغرب وتشبعوا بالثقافة الغربية كحال رجل الدولة والمفكر البارز "زو غوانغجي" الذي تولى رئاسة الحكومة في السنة الأخيرة من حكم الامبراطور "مينج".
ولا يكتمل الحديث في هذا الموضوع دون الإشارة إلى أن تايوان أو الإقليم الذي يعتبره حكام بكين إقليماً متمرداً، برز في فترات من التاريخ الحديث كمعقل مهم للترجمة وفنونها وآلياتها في منطقة الشرق الأقصى. ولم يكن ذلك إلا بسبب غياب الحساسية الأيديولوجية أو التاريخية لدى نظام تايبيه حيال الآخر المتفوق سواء في الغرب الأميركي أو الشرق الياباني، وهو الأمر الذي ساهم في ظهور أجيال من التايوانيين ممن يتقنون اللغات الأجنبية الحية وشغفهم بترجمة إبداعات الآخر الأكثر تفوقاً أولاً بأول، فيما كان أقرانهم في البر الصيني معزولين عن العالم بسبب جنون الزعيم "ماو" وثورته الثقافية الدموية.