على امتداد السنين والحقب، واصل الرؤساء الأميركيون دعوتهم إلى نشر الحرية في الدول التي تفتقر إليها بحكم نقص تطور تجربتها السياسية، أو تعاديها مباشرة. وفي الآونة الأخيرة اتجهت الأنظار إلى العالم العربي، حيث تتعثر مسيرة التقدم الديمقراطي. وقد أثمرت الجهود التي بذلها الرئيس السابق جورج بوش في هذا المجال -ابتداء من توجيه الخطب الصادقة إلى القادة العرب، وصولا الى غزو باهظ التكلفة للعراق- عن نتائج متضاربة، تتراوح بين السلبية والإيجاب. واليوم يحاول أوباما انتهاج مسار مختلف، قوامه استغلال الكاريزما الشخصية التي يتمتع بها باعتباره رئيساً مختلفاً للولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى تعزيز الجهود الداخلية الرامية إلى تحسين صورة أميركا وتقديمها على أنها نموذج يُحتذى في الديمقراطية. بيد أن هناك من المتشككين من ينظر إلى كل هذه الجهود على أنها عقيمة وعديمة الطائل، إذ لا سبيل أصلا للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام في نظرهم. وربما بسبب هذه الشكوك نفسها، فإن مما يثير الاهتمام أن نتابع عملية التوافق الجارية بين الإسلام والديمقراطية في ثلاث دول كبرى، يمثل إجمالي كثافتها السكانية، ما يعادل ربع أو ثلث تعداد مسلمي العالم قاطبة. فها هي إندونيسيا -التي يبلغ تعداد مسلميها 205 ملايين نسمة- توشك على إجراء انتخاباتها الوطنية التي يتوقع لها أن تعزز سيرها الثابت باتجاه التقدم الديمقراطي. أما في الهند -التي يمثل فيها المسلمون أقلية قوامها 150 مليون نسمة- فقد اقتربت من اختتام انتخاباتها العامة التي امتدت لشهر كامل، مع العلم أن تعدادها السكاني يتجاوز المليار نسمة. إلى ذلك تمثل تركيا -ذات الكثافة السكانية المسلمة المقدرة بـ77 مليون نسمة، نموذجاً ناجحاً للديمقراطية العلمانية. وربما لا تمثل هذه التجارب الديمقراطية نموذجاً يحتذى من قبل دول العالم العربي الأشد افتقاراً إلى الديمقراطية. غير أن النجاح الذي حققته التجارب هذه، يقف شاهداً على إمكانية التوفيق، بل حتى الاندماج، بين الديمقراطية والإسلام. فلا يخفي علينا مثلا بروز دولة مثل إندونيسيا باعتبارها ديمقراطية سلمية، إذا ما أخذنا في الاعتبار بعدم خلو ماضيها من العنف والتناحر السياسي. فعندما عملت فيها مراسلا صحفياً في ستينيات القرن الماضي، أحبط الجيش مؤامرة انقلابية قادها الشيوعيون، فأغرق البلاد على إثرها في حمامات من الدم، انتقاماً من الشيوعيين ومؤيديهم في كافة جزر الأرخبيل الإندونيسي. وأشارت تقديرات تلك المجازر إلى مصرع نحو مليون إندونيسي في تلك الأحداث المروعة، بينما كانت تقديراتي الخاصة لعدد القتلى لا تتجاوز الـ200 ألف. إلا إن ذلك الرقم انخفض إلى 87 ألفاً فحسب، وفقاً للمعلومات الرسمية الواردة عن لجنة التحقيقات المكلفة من قبل الرئيس سوكارنو. ويظل حتى هذا الرقم الأخير غير الدقيق مرعباً هو الآخر. وتعود عدم دقته إلى ما قاله لي أحد مصادري الخاصة، من أنهم أطلعوا الرئيس سوكارنو على الرقم الذي كان يريده فحسب، متجاهلين في ذلك الحقائق الفعلية على الأرض. وفي عهد الجنرال سوهارتو -الذي أطاح بالرئيس سوكارنو- استمرت أحداث عنف دموي مشابهة. غير أن إندونيسيا تحولت اليوم إلى دولة ديمقراطية واعدة تسودها سيادة القانون والنظام. أما الهند فهي تجري الآن انتخاباتها العامة الخامسة عشرة منذ نيلها الاستقلال في عام 1947. ويفخر الشعب الهندي كثيراً بأن دولته تعد أكبر دولة ديمقراطية على نطاق العالم كله. وعلى رغم أن الهند يغلب عليها الانتماء الديني الهندوسي في الأساس، فإن مسلميها لا يدلون بأصواتهم الانتخابية باعتبارهم كتلة دينية واحدة، إنما تتوزع أصواتهم على عدد من الأحزاب السياسية المتنافسة، ذات الرؤى والسياسات المتباينة يميناً ويساراً. قبل أشهر عديدة كان أوباما قد أعرب عن رغبته في توجيه خطاب إلى الأمة العربية الإسلامية من إحدى عواصم الدول المسلمة. كان ذلك في الأشهر الأولى لتوليه الرئاسة. وقد اتضح الآن أن هذا الخطاب سوف يوجه قريباً من القاهرة التي سوف يزورها أوباما خلال الأسبوع الأول من يونيو المقبل. بيد أنه ليس مما يثير دهشة أحد أن سبق لأوباما أن اختار تركيا ليوجه منها خطابه الذي أكد فيه أن "بلاده ليست في حرب مع الإسلام". فهي -كما يراها "ستيفن كوك" الزميل الرئيسي بـ"مجلس العلاقات الخارجية" نموذجا للدولة الديمقراطية ذات الأغلبية المسلمة. فعبر انتخابات حرة نزيهة أجريت هناك، تمكن حزب "العدالة والتنمية الحاكم"، من الحفاظ على نمط الديمقراطية العلمانية والسوق الحرة، منذ فوزه بتلك الانتخابات في عام 2003 وإلى اليوم. وكانت العلاقات بين واشنطن وأنقرة قد شهدت توترات لبعض الوقت خلال السنوات الأخيرة الماضية، إثر اعتراض تركيا على استخدام أراضيها وأجوائها من قبل واشنطن، لشن حربها على نظام صدام حسين في عام 2003. كما عرف عن رئيس الوزراء التركي "رجب أردوغان" أنه من أقوى الأصوات المعارضة والمنتقدة للاجتياح الإسرائيلي الأخير لقطاع غزة. بيد أن زيارة أوباما لتركيا بددت هذه الجفوة والتوترات، وأحسن استقبال أوباما كثيراً في تلك الزيارة، خاصة بعد أن تأكد لأنقرة أن واشنطن بدأت تنظر إليها مجدداً على أنها وسيط ناجح محتمل لها، في مواجهة الكثير من تحديات المنطقة الشرق أوسطية، وهو الدور الذي تبدي تركيا استعداداً واضحاً للقيام به. وفي حين تبدو كل من إندونيسيا والهند وتركيا نماذج باهرة للتوافق بين الديمقراطية والإسلام – وتجسد هذا التوافق كل واحدة منها بطريقتها الخاصة- إلا إن في هذه التجارب نفسها، ما يؤكد قدرة الديمقراطية على التكيف مع مختلف ثقافات الشعوب وعاداتها. وتعود تلك القدرة إلى الحرية، وليس بالضرورة إلى الديمقراطية، في تصورها أو مفهومها الأميركي أو الغربي عامةً. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"