صورة العرب والمسلمين بعد "بن لادن"
اختلفت مواقف العرب والمسلمين تجاه أسامة بن لادن في حياته، وستظل كذلك بعد مماته. ويحفل الـ"فيسبوك" الآن بما يدل على ذلك في عناوين الصفحات والمجموعات التي أنُشئت عقب مقتله. فالمسافة شاسعة بين عناوين مثل "بن لادن لا يمثل إلا نفسه" و"مبروك قتل الإرهابي بن لادن" وعناوين أخرى مناقضة مثل "الشيخ الشهيد بن لادن الأب الروحي" و"كلنا أسامة بن لادن".
وإذا كان هذا التناقض يعود إلى اختلاف بين عقليتين ومنهجيتين، فقد ساهم في إذكائه التباس في "البن لادنية" نفسها يعود إلى مزج تطرفها الشديد بخطاب موجه ضد من يعتبرهم غير قليل من العرب والمسلمين أعداءهم الأساسيين، أي أميركا وإسرائيل.
وما زال هذا الالتباس مستمراً في ردود الفعل على مقتل بن لادن، وتغذيه طريقة التعامل معه عند اقتحام مقره والإصرار على الإجهاز عليه بدلاً من اعتقاله ومحاكمته، ثم التخلص من جثته بإلقائها في البحر.
والأرجح أن هذا التناقض في المواقف تجاه بن لادن في العالم العربي والإسلامي سيتواصل لفترة يصعب تقديرها. وفي هذا التناقض ما يحول ابتداءً دون تكرار ظاهرة الاحتفاء الواسع بالمناضل اليساري جيفارا بخلاف ما يتوقعه بعض من يبّجلون بن لادن. فرغم أن كليهما حاربا الولايات المتحدة، فقد كانت أسبابهما مختلفة تماماً إلى حد يصعب معه القول إنها تمثل عدواً مشتركاً لهما بالمعنى نفسه. فالفرق بينهما أبعد من المسافة الطويلة التي تفصل بين بوليفيا، حيث خاض جيفارا معركته الأخيرة ضد الأميركيين وقُتل في الميدان، وباكستان حيث اختبأ بن لادن وقُتل في "بيته".
لم يعمد جيفارا ذات يوم إلى إيذاء بريء ناهيك عن أن يقبل قطع رأسه وتصوير عملية ذبحه كالشاه عبر الفيديو، بخلاف بعض قادة "القاعدة" الذين فعلوا ذلك وتباهوا به دون أن يعترض بن لادن. كان جيفارا مقاتلاً بالفعل. آمن بالعنف الثوري أشد الإيمان. لكنه "العنف النبيل" الذي استهدف تحرير البشر، وليس سفك دماء من يسوقه القدر في طريقه. وهذا هو السبب الرئيسي وراء الصورة الإيجابية التي خلّفها في العالم كله بما في ذلك داخل الولايات المتحدة التي قاتلها حتى النفس الأخير.
وهذا أحد أهم الفروق بينهما، إذ خلف بن لادن صورة شديدة السلبية للمسلمين والعالم الإسلامي، ليس في الغرب فقط بل في معظم أنحاء المجتمع الدولي. وهذه الصورة هي التي ينبغي العمل من أجل محاولة تصحيحها عبر توضيح أن حرب بن لادن لم تكن ضد أميركا والغرب في المقام الأول، بل من أجل السلطة في العالم العربي والإسلامي.
فقد كانت الهجمات ضد مصالح غربية بمثابة سياسة تكتيكية لجأت إليها "القاعدة" لخدمة استراتيجيتها التي استهدفت الاستيلاء على السلطة في بعض البلاد العربية والمسلمة. وإذا كانت "القاعدة" ضربت في نيويورك وواشنطن ولندن ومدريد وبالي وغيرها، فلكي تحقق أهدافاً في القاهرة والرياض وصنعاء والجزائر والرباط وعواصم عربية أخرى. ولم يكن تحولها عن شن هجمات في هذه العواصم حيث ما تسميه "العدو القريب" إلى الهجوم في مواقع "العدو البعيد" وفق لغتها إلا موقفاً تكتيكياً. وكان هذا الموقف اضطرارياً في جانب منه بسبب فشلها في بناء قاعدة حقيقية لها في أي بلد عربي أو إسلامي، ومقصوداً في جانب آخر بهدف محاولة استثارة عواصم "العدو البعيد" ضد "العدو القريب". وقد حدث شيء من ذلك فعلاً عقب هجمات 2001 عندما شن "المحافظون الجدد" في واشنطن حملات ضد بعض البلاد العربية. وكانت النتيجة، في النهاية، هي الإساءة إلى صورة الإسلام والمسلمين على نحو يجعل السعي إلى تصحيحها أولوية قصوى في الفترة المقبلة. ويتطلب ذلك اللجوء إلى أساليب جديدة ومبتكرة تتجاوز الخطاب السياسي والديني إلى استخدام الأدوات الأكثر تأثيراً على القطاع الأوسع من الناس؛ مثل السينما التي ساهمت بمقدار كبير في ترويج الصورة السلبية عبر عدد كبير من الأفلام التي استوحت هجمات سبتمبر 2001.
فقد أصبح العرب والمسلمون بعدها "أشرار السينما" الأميركية، والغربية عموماً، أكثر من أي وقت مضى. صحيح أن صورتهم لم تكن إيجابية قبل سبتمبر 2001. ولدينا دراسات تؤكد ذلك، من أهمها كتاب أستاذ الإعلام البروفسور جاك شاهين (عرب سيئون جداً: كيف شوهت هوليوود شعباً؟) الذي تناول عدداً كبيراً من الأفلام الروائية والتسجيلية، وانتهى إلى أن الصورة الشائعة للعربي في "هوليوود" هي أنه إرهابي أو متخلف أو منحرف أو حتى تاجر رقيق. كانت هذه الصورة غالبة، لكنها لم تكن جامعة مانعة إذ ظهرت صورة أخرى إيجابية على نطاق محدود. كما لم يكن العرب والمسلمون وحدهم الذين شُوهت صورتهم. حدث هذا أيضاً للروس الذين أخذت صورتهم في التحسن تدريجياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
وفضلاً عن التركيز على العرب والمسلمين بعد سبتمبر 2011، فقد صارت صورتهم أكثر سلبية. وتدخل "المحافظون الجدد" في إدارة بوش الأولى وطلبوا من صنَّاع السينما ونجومها المساهمة في الحرب ضد الإرهاب، وزار كارل روف، أحد أركانهم، "هوليوود" داعياً لأن يقوم الفن بدوره في حرب اعتبرها مقدسة. وانهمر سيل من الأفلام التي استوحت هجمات سبتمبر 2001 إما بشكل مباشر أو غير مباشر.
ومن أبرز الأفلام الروائية التي حققت انتشاراً واسعاً في هذا السياق فيلم "الثلاثاء الأسود" الذي يقدم ستة أميركيين يحاولون تجاوز ما لحق بهم من أذى بسبب "الإرهاب الإسلامي"، وفيلم "قلب قوي" الذي استمد أهميته من بطلته المشهورة انجلينا جولي التي لعبت دور أميركية طيبة قرر زوجها الصحافي كتابة موضوع عن تنظيم "القاعدة"، لكنه خُطف وقتل بوحشية في باكستان.
وكانت الأفلام التسجيلية والوثائقية أكثر حدة في تشويه صورة العرب والمسلمين، مثل فيلم "داخل 11/9"، وفيلم "خلية هامبورج" وغيرهما.
ورغم أن أفلاماً غربية توخت الموضوعية، مثل فيلم "فهرنهايت 9/11" للمخرج والمعلق مايكل مور، الذي يوجه نقداً لاذعاً لسياسة إدارة بوش والحرب على الإرهاب، فقد كانت قليلة بل نادرة. فأغلب الأعمال السينمائية التي قدمت صورة صحيحة للعرب والمسلمين لم تكن غربية، مثل الفيلم الهندي "اسمي خان" والفيلم البوسني "على الطريق".
وهكذا أصبحت السينما مجالاً خصباً لترويج صورة سلبية للعرب والمسلمين وتدعيم نزعة "الإسلاموفوبيا" التي غذَّاها خطاب بن لادن وسلوكه. ورغم أنها ليست وحدها، فهي الأكثر تأثيراً لأن إنتاجها لا يُعرض فقط في دور العرض بل في التليفزيون وعبر "الإنترنت" أيضاً. لذلك يصح أن تكون السينما في صدارة جدول أعمال كل من يريد أن يجعل مقتل بن لادن منطلقاً لتصحيح صورة الإسلام والعرب التي أساءت إليها "القاعدة".