ما زالت القراءة تمثل زادنا الذي لا ينضب في مسيرتنا نحو البحث عن أفق معرفي مغاير يقودنا نحو رؤية جديدة ومتجددة للعالم الذي نعيش فيه، ولذواتنا التي ننظر من خلالها إلى هذا العالم. وها نحن اليوم نحاول أن نناقش قضية، أظنها غير مطروقة، ولم تنل ما تستحقه من اهتمام، وهي: كيف تسهم القراءة في بناء وتشكيل الوعي الجمالي؟ ولتوضيح هذه القضية، يسعى المقال إلى الإجابة على التساؤلات الآتية: ما المقصود بالوعي الجمالي؟ وما مكوناته؟ وما أهميته بالنسبة للفرد والمجتمع؟ وما دور القراءة في بناء هذا النوع المخصوص من الوعي؟ ونبدأ حديثنا عن الوعي الجمالي بالتأكيد على طبيعة العلاقة الطردية بين الوعي والمعرفة من ناحية، بين المعرفة، وبين الوعي الجمالي والقراءة، من ناحية أخرى. فكلما ارتفع رصيد الفرد من الرأس مال المعرفي، كلما تطور وعيه. وكلما تطور وعيه كلما تعمقت معرفته، والعكس صحيح. ولا سبيل لتعميق هذه المعرفة سوى بالقراءة، حيث تمارس القراءة دوراً أصيلاً سواء في تطور وعي الفرد، أو في ارتقاء معرفته، أو في بناء وعيه الجمالي. لكن ما المقصود بالوعي الجمالي؟ لا شك أن الجمال يتداخل في جميع جوانب حياتنا، كما أننا نصادفه في كل مكان، وأن الأشياء والظواهر الجميلة غير محدودة، ولا متناهية التنوع. ويعد الوعي الجمالي نوعاً مخصوصاً من الوعي. يتصل بفهم وإدراك الظواهر الجمالية، أو الاستجابة الجمالية لظواهر الكون، بكل ما تعنيه هذه الاستجابة من أبعاد وجدانية ومعرفية وحسية وانفعالية واجتماعية. حيث يتخلق هذا الوعي ويتشكل من خلال طبيعة العلاقة بين هذه الأبعاد: التي تتفاعل فيها العوامل الذاتية (التي ترتبط بخبرة الفرد وقدرته على تأمل الجمال والاستمتاع به. والعوامل الموضوعية التي تتمثل في مظاهر الجمال التي تتبدى في كل ما يحيط بالفرد)، وينعكس الوعي الجمالي على سلوك الفرد والمجتمع، ويتجلى في مشاعرهم وأحاسيسهم نحو الجمال، كما يتجلى في أساليب تعبيرهم عن هذا الجمال. ويصبح الوعي الجمالي مكوناً أساسياً من مكونات البناء الروحي والقيمي للثقافة. خاصة إذا نظرنا إلى الثقافة - كما تم تعريفها من جانب منظمة اليونسكو "بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها مجتمع أو مجموعة اجتماعية، وعلى أنها تشمل - إلى جانب الفنون والآداب - طرائقَ الحياة وأساليبَ العيش معاً، ونُظُمَ القِيَم والتقاليد، والمعتقدات". ولا نبالغ إذا قلنا إن الوعي الجمالي يؤسس لنوع جديد من الثقافة، تتمثل في "ثقافة الجمال". وتغدو هذه الثقافة بمثابة الإطار المرجعي الذي يهدي سلوك الإفراد والجماعات ويوجههم نحو إدراك الجمال، والاستمتاع به، كما تلعب هذه الثقافة- ثقافة الجمال- دوراً مهماً في تشكيل الذائقة الجمالية للفرد والجماعة. وفي إطار هذه الثقافة يتشكل "المثل الجمالي الأعلى"، الذي يحدد معاني الجمال في صوره المتنوعة. كما يحدد قيم ومعايير الحكم على الأشياء الجميلة في سياق البناء الروحي والفكري للمجتمع. ويساهم المثل الجمالي الأعلى في تشكيل وعي الأفراد والجماعات ويمنحهم القدرة على اكتشاف الجمال، سواء ذلك الجمال الكامن في ظواهر الكون والأشياء التي يزخر بها العالم الذي يعيشون فيه. أو الجمال الكامن داخل ذواتهم. ويمنحهم القدرة على الاستمتاع به. ويفضي هذا الوعي إلى بناء ذات (فردية واجتماعية) قادرة على الإحساس بالجمال ، وقادرة على بث البهجة على كل من حولها، وقادرة على محو مساحات الحزن التي تعشش داخل العقول والقلوب. إذ الحزن يقتل الروح، والبهجة تحيي خلايا الروح وتجددها. الحزن يثبط الهمم، والبهجة تزرع الأمل وتشحذ الهمم. وتعزز القدرة على اكتشاف الجمال، والاستمتاع به. وإذا كان وجود الجمال وتبديه في صور متنوعة شرطاً ضرورياً، فإن وعي الفرد وقدرته على اكتشاف هذا الجمال، في كل ما يحيط به، وفي مختلف تفاصيل الحياة اليومية، يمثل حجر الزاوية في الإحساس بالجمال، وتذوقه، وفي بناء الوعي الجمالي. ولنا في قول الشاعر (إيليا أبو ماضي) دليل، حيث يقول: والذي نفسه بغير جمال ... لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً أيها الشاكي وما بك داء .... كن جميلاً ترى الوجود جميلاً كن غديراً يسير في الأرض رقراقاً ... فيسقي من جانبه الحقولا من ثم فإن الوعي الجمالي للفرد يلعب دوراً أساسياً في إدراك الجمال والاستمتاع به. لكن ما دور عملية القراءة في تشكيل الوعي الجمالي؟ إذا كان الوعي الجمالي سمة موجودة - بدرجات متفاوتة - لدى كل الأفراد، حيث يتشابهون في امتلاكهم حداً أدنى من الإحساس بالجمال، فهناك فروق فردية بين هؤلاء الأفراد فيما يتصل بوعيهم الجمالي. وبالتالي في طبيعة إحساسهم بالجمال، أو في طبيعة استجابتهم الجمالية، أو في طبيعة المعايير والأحكام التي يرتضونها للتفضيل الجمالي. ويرتبط التباين في هذه الفروق الفردية بتطور الوعي الجمالي للفرد. فكلما ارتقى وعي الفرد وتطور، كلما اتسع وعيه الجمالي، وحاز نصيباً أوفر من القيم والمعايير التي تمكنه من إدراك الجمال في كل ما يحيط به. ولا شك عندي في أن القراءة تشكل حجر الزاوية في بناء الوعي بشكل عام، وفي بناء الوعي الجمالي بشكل خاص، حيث القراءة مفتاح كل معرفة ووسيلة أساسية لتنمية الخيال، القادر على التقاط الجمال، أينما كان وكيفما كان، بل والقادر على إضفاء طابع الحٌسن والجمال على كل ما حوله ومن حوله. كما أن القراءة ترتقي بالذائقة الجمالية للفرد، وتفتح أمامه آفاقاً غير محدودة لإدراك الجمال والتعبير عنه، بل وتمكنه من الارتقاء إلى مصاف المبدعين والفنانين الذين يتخذون من الفن والإبداع وسيلة أساسية لابتكار أشكال سارة، وهذه الأشكال تقوم بإشباع أحساسنا بالجمال. ومثلما تلعب القراءة دوراً أساسياً في بناء وتطور الذائقة الجمالية للفرد، فإنها تلعب الدور نفسه في بناء ثقافة الجمال، خاصة فيما يتصل بقيم ومعايير التفضيل الجمالي والحكم على الأشياء والظواهر الجميلة. فمن الصعب أن نتصور إمكانية التعبير عن جماليات الكون، دون أن نمتلك مخزوناً جمالياً يثري ثقافة الجمال ويوقظ مشاعرنا وإحساسنا نحو الجمال. ويقيني أن البحث عن الجمال وتنمية الوعي الجمالي طريق شاق، يحتاج إلى مجاهدة لا سبيل إلى بلوغها سوى القراءة.