إلى جانب الشرعية الدستورية وشرعية الإنجاز والشرعيات التقليدية التي تحوزها النظم الملكية، هناك شرعية منسية، لا يرتبها قانون ولا يتوقف المتلاعبون أمامها كثيراً، لكنها الأمضى والأبقى أثراً، وهي السيف البتار الذي يقطع رقاب الظالمين دون أن يعرفوا من أين أتتهم الضربة، ألا وهي "الشرعية الأخلاقية". فما أسهل أن تفوز بالكراسي ومنافعها، وما أصعب أن تربح رضا الشعب واحترامه. وكما قال السيد المسيح عليه السلام: ما جدوى أن تكسب العالم وتخسر نفسك. في غمرة النهم إلى مزيد من السلطة يتم، في الغالب الأعم، نسيان الكثير من المبادئ الأخلاقية والالتزامات الإنسانية والمقررات الوطنية، لاسيما إن كانت القاعدة الراسخة الصلبة التي تحكم التنافس السياسي غائبة، أو مغيبة، أو لا تزال تصنع. فوجود الدستور يخفف من غلواء طمع أي طرف راغب في الإمساك بكل الخيوط والسيطرة على كل الأمور، ويكبح جماح إنسان لا يوقف سعيه إلى حيازة مزيد من القوة سوى الموت، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. ويزداد الأمر سوءا مع تواجد من يبرر التلاعب والكذب على الناس تحت ستار "التقية" أو "الحرب خدعة" أو "استحلال الآخر" أو ما تفرضه مرحلة "الصبر" أو "التمسكن" من تحايل حتى الوصول إلى "التمكن" أو "الهيمنة". ففي هذه الحالة سيصنع هؤلاء دوماً مبرراً أخلاقياً على مقاسهم، يتبناه أتباعهم الذين يساقون كما يراد لهم، ويحاولوا تسويقه إلى المجتمع الذي يحيط بهم، مستعينين بالفقه الذرائعي الذي نشأ في أحضان بني أمية ليدافعوا به عن ملكهم العضوض واستمر مع العباسيين وبني عثمان حتى وصل إلينا، ولا يزال يعيش ليس فقط في بطون الكتب الصفراء إنما أيضاً في عقول كل أولئك الذين يعاندون الزمن ويضيعون وقتنا في أوهام وأباطيل، وينسون قول الله تعالى: "وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ" . ويتساوى هؤلاء مع صنوهم ممن يحمون جشعهم وثرواتهم وقوتهم الباطشة بسياج من الادعاءات الكاذبة حول "حماية الوطن" والدفاع عن "الأمن القومي" و"المصلحة العامة" وكل تلك المصطلحات التي توظف في غير موضعها. هنا لا يكون الاهتمام بــ"شرعية الأخلاق" حاضراً، وكل ما سيحدث هو تزيين الجري وراء القوة الغاشمة بقشرة من الفضائل، للتلبيس على الجماهير، أو تعمية عقولهم ولو لفترة من الزمن. لكن هؤلاء الذين يظنون أنهم يستغفلون المجتمع هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم، لأنه سرعان ما تسقط عنهم الأقنعة المزيفة، لا سيما مع الثورة الرهيبة في وسائل الاتصال والتفاعل، ويقفون عرايا أمام الناس، ووقتها سيحاسبون حسابا عسيرا، ويدركون أن الشرعية القانونية الشكلية لم تغنهم عن الاحتياج لرضا الناس واحترامهم. وقد استفاض الفقهاء والشراح والمفسرون وكتاب الآداب السلطانية، قديما وحديثا، في تناول "السلوك السياسي"، فانطلقوا من أن الحاكم بمثابة الرأس من الجسد، إذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد، ولذا فعليه الدور الأكبر في تقويم الناس، لأن "ما لا يزع بالقرآن يزع بالسلطان". ومن هنا أعطوا الحاكم سلطة التغيير والتبديل وجعلوه فوق الجميع. وعني فقهاء آخرون بتهذيب السلطة، فركزوا على أنه "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وطالبوا الحاكم بأنه يكون قدوة خيرة نيرة سليمة لرعيته، وأن يتصرف على أنه من جنس الناس؛ إذا جاعوا جاع، ولا يشبع إلا إذا شبعوا، وأن يكون مترفعا عن الدنايا، متواضعا لكل أفراد شعبه، قويا إذا عدل، غير مصر على ظلم أو بغي، وأن يكون عادلا فلا يصدر عنه ظلم لأحد. "ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً" (الفرقان:19). واهتم بعض الفقهاء بعدالة الحاكم، ورأوا أنها تشمل الأمانات (الولايات والأموال) وإقامة الأحكام (حدود الله وحقوق الناس). ومن حيث الولايات يجب على الحاكم أن يولي الأصلح من رعيته شؤون الناس، ولا يعدل عنه إلى غيره لأجل قرابة أو ولاء أو صداقة أو مرافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس أو الرشوة أو لضغن في قلبه على الأحق أو غير ذلك من الأسباب، وذلك استنادا إلى حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولي أمر المسلمين شيئا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين" (رواه الحاكم). ولذا على الحاكم أن يختار الأمثل فالأمثل، وأن يكون الأصلح في كل ولاية بحسبها، فالقوة لإدارة الحرب والأمانة لإدارة المال، " إن خير من استأجرت القوى الأمين" (القصص:26). والعلم والورع للقضاء بين الناس. وبالنسبة للأموال، فسلوك الحاكم فيها هو "العدل"، فليس له أن يقسمها حسب أهوائه، ولكن يعطي كل ذي حق حقه، فإذا أخذ "ولاة الأموال" وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فعلى الحاكم أن يستخرجه منهم. والعدل يعني مراعاة حق الفقير في مال الغني، وفي المال العام كذلك. وهناك تراث طويل من الأفكار والممارسات، يركز عليها الفقهاء في حديثهم عن العدل، فها هو أبوبكر الصديق يقول في أول كلمة له بعد تولي أمر المسلمين، "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم". وها هو الفاروق العادل عمر بن الخطاب يقول "لو أن دابة عثرت في العراق لسئل عمر لماذا لم تمهد لها الطريق". وها هو علي بن أبي طالب يوبخ والي بيت المال الذي أعاد عقدا ثمينا لابنته تلبسه يوم العيد ثم ترده، ويعيب على القاضي الذي كناه ولم يفعل ذلك لخصمه اليهودي حين احتكما إليه. وها هو عمر بن عبد العزيز يولي رجلا يشد ثيابه ويقول له "اتق الله" حتى يظل مراقبا لله في كل سلوكه، ويصادر كل أموال أقربائه التي جمعوها بغير حق في حكم من كانوا قبله.