... تتابع محدثتي الإيرلندية حديثها المرير عن حملة مساندة السجناء الفلسطينيين التي تساهم فيها في بريطانيا. تقول، استضفنا "وشاح" السجين الفلسطيني السابق من غزة بعد أن قضى أربعة عشر عاماً في سجون إسرائيل ليتحدث في لقاءات في بريطانيا. أبكى الجميع عندما تحدث في لندن. يوم اعتقلوه كان عمر طفلته شهرين، وكان بينه وبينها عدة مناغات واحتضان والد شاب لطفلة جاءت للتو إلى الحياة. قال إن أكثر ما رافقه منها في سجنه هو رائحتها الطفولية المميزة. عششت تلك الرائحة في أنفه عطراً يبث فيه الصمود، يتذكر عندما كان يلمها إلى صدره. أربعة عشر عاماً وهو يعتاش على تلك الرائحة التي كانت إكسير صموده. واليوم وبعد أن صافحته شمس الحرية بعد سنوات الإباء تلك يعانق الطفلة الصبية فتثور في أنفه ونفسه رائحة الطفولة تلك يوم أن أسر وكأنها لم تغب لحظة واحدة. تحية وعناق يا طفلة وصبية صمودي.
أضافت، نجحنا في إيصال صوت سجناء فلسطين وأحزانهم إلى البرلمان البريطاني، ونظمنا ندوات في قلب مجلس العموم البريطاني. أقنعنا برلمانيين كثراً بأنه من دون تحرير أولئك السجناء، إنسانياً وسياسياً، وردهم إلى عائلاتهم، فإن أي حل في فلسطين لا معنى له. وتحمس بعضهم ووافقوا الآن على القيام بزيارة ميدانية إلى السجون الإسرائيلية ليروا بأم أعينهم ما يحدث من قتل للإنسانية في تلك السجون. بعد أن يعودوا سننشر نتائج زيارتهم وسيعطي ذلك زخماً إضافياً لما نقوم به. سنوسع الحملة لتطال أوروبا وصناع قرارها.
على جدول أعمالنا الكثير مما نعمله لنشعر براحة الضمير. لكن يدنا مشلولة! عبثاً حاولنا جمع بضعة آلاف من الدولارات من الجالية العربية في بريطانيا، حتى لا تنكسر إرادتنا ونخذل أولئك الرجال خلف القضبان فتتوقف الحملة. طرقنا باب عرب كثيرين في لندن وغيرها، أفراداً ومؤسسات. شرحنا لهم بالتفصيل أوضاع آلاف السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية والمعاناة التي يعانونها وتعانيها عائلاتهم. قلنا لهم إن أعياد أولئك الفلسطينيين منزوعة منها الفرحة وأن أولادهم يكبرون وفي قلوبهم غصة، آباؤهم في ظلام السجون. لم ننجح في جمع ذلك القليل الذي نريده. مؤسسات عربية كبرى تمثل بعض العرب حكومات وشعوباً تبرعت لنا بمائتي دولار! تصور! بعض الأغنياء العرب الذين ينفق بعضهم في عشاء فاخر في فندق فاخر من فنادق لندن أكثر من كل الميزانية التي نطمح إليها صدونا متعللين بأن أوضاعهم المالية ليست على ما يرام. آخرون لم يكونوا أكرم في صدهم لنا، وأعلنوا جبنهم وخوفهم من مساندة "حملة سياسية". قلنا لهم إن الجماعات المؤيدة لإسرائيل في بريطانيا وأوروبا تعمل في وضح النهار وبكل جرأة لدعم المصالح الإسرائيلية السياسية، وأن من حقهم كما لا ضير عليهم المشاركة ولو بالمال إن عز الجهد. لكن، لا حياة لمن تنادي. بصراحة، أرقت ماء وجهي إلى أقصى حد يمكن أن تتخيله، ولم أكن أتصور يوماً هذا الشح العربي المدهش.
أيها الصامدون برغم تخاذلنا، تحية اعتذار منكم. نرسل لكم من لندن، كما من كل عواصم العرب والعجم، رسالة خذلان موقعة بالتعاسة. لستم أنتم السجناء، إنما نحن. أنتم وحدكم الأحرار وكلنا سجناء جبننا وبؤسنا وارتعاشات أصابعنا وهي تتردد أمام جيوبنا المنفوخة وبطوننا المنفوخة وأوداجنا المنفوخة نقداً في تخاذل حكوماتنا. أيها الأحرار، نفاجئكم باكتشاف مذهل ذاك أننا من نفس طينة حكوماتنا إن لم نكن أسوأ: نجعجع ليل نهار لأنها حكومات متخاذلة، ولا نفعل سوى منافستها في الخذلان.
أغنياؤنا وفقراؤنا في بريطانيا خذلوكم بعشرة آلاف دولار! أغنياؤنا سفحوا ماء وجوه مناصرينا من البريطانيين والإيرلنديين في مكاتب سكرتيراتهم انتظاراً وتسويفاً ثم اعتذاراً عن ضيق الوقت وعدم إمكانية المقابلة. فقراؤنا هنا ازدادوا شكوى ولطموا خدودهم وقصرت أيديهم على قصرها حتى عن تقديم أقل القليل. لم يذبحوا خيلهم ليقدموا لكم بقايا مروءة. حاتم الطائي أخذ معه يوم مات كل المروءات.
محدثتي الإيرلندية تثير الإعجاب. لأن إصرارها على مناصرتكم أقوى من بخلنا. من أين جاءت بكل هذه العزيمة؟ من روعتكم وصمودكم وقصصكم. من نسج الحياة بخيوط العزة التي تفيض كالشمس من زنازينكم فتخرج إلينا لتكشف عوراتنا نحن المساجين في الخارج. محدثتي الإيرلندية وأصدقاؤها الذين يغلي في صدورهم ضمير إنساني حي تعرف عنكم الكثير، أكثر مما نعرف عنكم. وتعمل من أجلكم أكثر مما تتسع له طاقة ملاييننا التافهة. مات حاتم الطائي وخيله، هنا يلتقط راية دعمكم أبو حاتم وأم حاتم وآخرون ليسوا من سلالة الطائي. ليس عندهم خيل يذبحونه، عندهم ضمير لا ينام.
سيدتي، تصفعينني بكلماتك إذ تسألين كيف لي أن أساعد! هل بالإمكان أن نثير المسألة في الإعلام فلربما نعثر على قارئ أو كريم أو سليل طائي يضع يده في يدنا؟ هل تعتقد أن القضية التي ندعمها تحظى بدعم الناس عندكم؟ أنا مندهشة من التكاسل الهائل في عيون وجهود من نتحدث إليهم من العرب. هل تعتقد أن غنياً عربياً واحداً ربما يقرأ كلمات مقالك فتثور


