لم تكن مدينة بومباي الهندية بالنسبة للتجار الخليجيين، مجرد ملتقى يجتمعوا فيه إلى أقرانهم من التجار الهنود، في النصف الأول من القرن الفائت، بل كانت بومباي عاصمة للثقافية مثلما هي باريس اليوم تقريباً، على الرغم من أنها مدينة محتلة من قبل بريطانيا؛ فقد اشتهرت هذه المدينة بمجالس التجار فيها التي يرتادها، إضافة إلى الأثرياء والأعيان، المثقفون وأقطاب المجتمع الهندي، وكان لتلك المجالس أدوار تقوم بها على نحو فعّال وتلقائي، التجارة فيها تحظى بالمقام الأول، تليها الثقافة وتبادل جديد الأخبار.
إضافة إلى وجود التجار الخليجيين في مجالس بومباي، كان هنالك وجود آخر للخليجيين والعرب معاً؛ فقد أسهمت بريطانيا، خلافاً لما كانت تضمره، في إثراء تلك المجالس، عبر لجوئها إلى عملية نفي السياسيين الخليجيين والعرب إلى بومباي، عقاباً لهم على مواقفهم المناهضة لها كقوة احتلال «انظر د. عبدالله المغني، كتاب التجارة في الإمارات قديماً».
فكان هؤلاء المنفيون يلتقون في المجالس بالجاليات الخليجية والعربية، ويطرحون موضوعات شتى بما فيها الموضوعات السياسية، تلك التي ما كان باستطاعتهم طرحها في بلدانهم بسبب الحظر وتشديد الرقابة على النشطاء منهم.
من بين هؤلاء المنفيين النقيب العراقي طالب باشا عام 1915، والمفتي البحريني عبد الوهاب الزياني في عام 1923، والشاعر الإماراتي أحمد بن سلطان بن سليِّم في عام 1938، الذي قضى فيها ما يزيد على عشر سنوات «انظر مرسي محمد عبدالله، دولة الإمارات وجيرانها»، وعمل بن سليِّم مذيعاً في القسم العربي بإذاعة عموم الهند في نيودلهي، ثانية أكبر مدينة هندية، ليعد بذلك أول مذيع إماراتي ينطلق صوته من إذاعة أجنبية خارج الوطن «انظر شمسة الظاهري، صور من حياة أبناء الساحل في الهند، مجلة تراث 109 - عام 2008». وكان بن سليِّم على علاقة بالزعيم الهندي «مولانا أبو الكلام ازاد».
وشهدت تلك المجالس في الهند، زيارة عدد من المفكرين العرب لها، أمثال الشيخ رشيد رضا عام 1912، وحافظ وهبة عام 1913، ومحيى الدين الخطيب عام 1915، وأمين الريحاني 1923، وكان هؤلاء جميعاً ينزلون ضيوفاً مكرمين على التجار الأثرياء في بومباي، يحيون خلال إقامتهم أمسيات ثقافية وأدبية يلقون فيها الشعر والكلمات الخطابية التي لا تخلو من الشؤون الوطنية.
وكانت تلك فرصة سانحة لاحتكاك أبناء الإمارات، التجار منهم والزائرون، بهؤلاء النخب العربية، المنفية أو القادمة إلى الهند بغرض الزيارة ليتعلموا منهم الكثير فيما يجب الاهتمام به على المستويين الوطني والقومي، فتوثّبت أرواحهم إلى قلق الأسئلة: كيف النهوض.. كيف محاربة الفقر والتخلف والأمية.. وما الطريقة الفعّالة للقيام بذلك؟ فكان هؤلاء التجار الخليجيون، هم الذين وقفوا وراء بناء المدارس في الإمارات وبلدان منطقة الخليج، في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، وهم الذين كانوا وراء تأمين المعلمين وتوفير متطلبات الدراسة فيها. لم تقتصر أعمالهم الخيرية الخاصة بالتعليم وبناء المدارس على منطقة الخليج فحسب، بل أنشأوا مدارس في الهند نفسها ليرتادها أبناء العرب والهنود معاً، لذلك، فإن من يقرأ الكتب التي أرّخت للتعليم في الإمارات، سيقف عند معلومة: أن التجار والموسرين الإماراتيين كانوا يرسلون أبناءهم للدراسة في الهند، وتحديداً في «جامعة علي جارة الإسلامية - تأسست عام 1878م» في بومباي، حيث كانت هي الأشهر بالنسبة للخليجيين في تلك الفترة التاريخية.