بعيداً عن الموت. حملتُ سيفي وهشّمتُ المرايا عدوّاً عدوّاً لعلي أنجو من نغمة التكرار. مشيتُ لا على التعيين ولكن لأمشي، وأينما حطّت خطاي بنيتُ أشجاري وقطفتُ من ثمر فروعها ما يحثُّ خطاي. هكذا درباً بعد دربٍ صرتُ منتصف البداية والنهاية، لا أنتمي لكلتيهما، بل انتماء للنهر الذي لا يكرر ذاته مرتين. وأنتمي إلى وهم العبور من زمنٍ هو الآن إلى زمن سيكون الآن غداً، والفرقُ بينهما أنا، وليس فرقاً في الزمان.
متكبراً على فكرة الخوف صنعتُ أحذيتي من خشب سفينة ومشيتُ على الماء. وأمام حشد مكبّلين، رسمت باباً في جدار الأمنيات وفتحته وخرجت. حدث ذلك في ظهيرةٍ حربٍ لم تبدأ، لكن الناس تلاسنوا على المنابر وفي الشاشات حتى تفجّر الغل في عروقِ رقابهم. الموتُ للحياةِ، قال صِبيةٌ مغررٌ بهم وراحوا يدوسون على الورد. الحبُّ خدعة سوداء، قالت امرأة ملثمة تحملُ رضيعاً من قش. لكني تركتهم، وذهبتُ لأفتح الأقفاص محرراً العصافير من كلماتهم. ومن بقايا القواميس التي حُرقت، جمعت أطراف الكلام وبنيت عرشاً للقصيدة الجديدة واضعاً في مطلعها كلمة: الأمل. لم تبدأ الحرب بعدُ، لأني كنستُ رمادها من طريق الباحثين عن الحرية. هؤلاء الذين ولدوا في حضن السؤال، وكبروا وهم يحدّقون في شاشة الحقيقة ولم يجدوا غير الفراغ ينهشُ أيامهم، والنسيان يأكلُ ما تبقى من ذكرياتهم.
رافضاً الخنوع خرجتُ من كل الطوابير لأشقّ دربي وحيداً. خارجاً من المربع والصندوق والدائرة، خارجاً من الأشكال والأطرُ والمفاهيم إلى براح الخلاص من التعلّق والتمسّك بما يزول. لا أحكمُ على الأفعال والأقوال ولكن أراقب سيرورة الزمن فيها. وإذا عضّني نابُ غدرٍ فتّشتُ في الأفعى عن سبب ارتفاع لؤمها. وإذا رأيتُ عاشقين يفترقان في نهاية رواية عن الحرب، لا أغلق الكتاب، بل أضعه مفتوحاً كوسادة وأنام لأحلم أنهما يعودان.
هكذا، في كل الدروب كنتُ أروي بذرة الحب من عرق الطريق. هكذا بنيتُ أشجاري سلماً سلماً. زرعتُ العصافير في الرسائل والورود في خيال الشعراء. كسرتُ الأقفال الصدئة في رؤوس الحائرين محرراً السؤال من سجّانيه. لم يعد الحبُّ فكرةً يتداولها الواهمون في أمنياتهم، بل صراط من الضوء علينا جميعاً أن نسير عليه، كي نصل مطمئنين إلى خلاص قلوبنا.