هل شعر أحدكم يوما بألم الذاكرة ؟ أنا شعرت بهذا الألم يوم كنت أعزي صديقة لي بوفاة والدها، في ذلك المساء وأنا أقف لتحية النساء اللواتي جئن للسبب نفسه، انفتحت ذاكرتي على عمر كامل من الوجوه والصداقات والصديقات، وللحظة اكتشفت أن ذاكرتي خانتني كثيرا أو أن الزمن الذي حجب تلك الوجوه التي لم أتذكرها كان بعيدا أو هكذا خيل لي ، هناك عمر وسنوات سقطت في المسافة بين زمنين ولحظتين، وما من سبيل لتعديل أي شيء، فبين زمن الفراق وزمن اللقاء هناك دائماً فائض مفقود من الزمن، قلما يشعر به الناس، لكنه المسؤول الأول عن ضياع الأسماء والملامح والتفاصيل من الذاكرة ! أو ربما هو السبب ونحن المسؤولون !!
حين كانت الوجوه تتوالى أمامي كان من بقي منها على حاله في تجاويف الذاكرة يؤلمني مروره جداً ، أن أكثر ما كان يؤلمني هو ذلك السؤال الذي سمعته مرارا : أين انتم ؟ وكنت أعيد ترديد السؤال بشكل اخر : نعم أين نحن من بعضنا ؟ أين اختبأ في هذا العمر الذي عبر بيننا ؟ كيف كنا أحبابا وصحبة دراسة وعمل لا نفترق في تلك الأيام وكيف مرت كل هذه السنوات دون أن نلتقي ؟ لابد أن غيبوبة ما ابتلعتنا أو أصابتنا بفقدان الذاكرة ، أنا هنا أتحدث عن جيل انتمي إليه ويعرفني جيدا وقد مر بتحولات المدينة الصعبة التي اكتسحت في طريقها الكثير من العلاقات الاجتماعية ، لكن التحولات ليست وحدها الملامة فنحن قد استسلمنا كثيرا لتجليات تلك التحولات كل بحسب ظروفه !
حين كانت صديقتي الواقفة بجواري تذكرني ببعض الأسماء التي فرت من ذاكرتي - دون علمي ودون إرادتي - كنت اشعر بألم شديد وبأن مجرد نسيان تلك الأسماء ومن ثم استعادتها في تلك الوقفة يهز ذاكرتي ويؤلمها فعلا، ولا ادري لماذا شعرت بالألم هل لان عملية التذكر مؤلمة جسديا أم لأنها تثير فينا تلك الحكاية القديمة الأزلية حول العمر والسنين التي تمر ؟ فنحن ننتبه فجأة إلى أن الأيام قد مرت وأننا كبرنا وبدأنا ننسى وأننا أثناء ذلك أسقطنا أو أهملنا أمورا كانت بالنسبة لنا كالماء والهواء ثم وفي وهج الاندفاع اعتدنا على أن نعيش بدونها حتى نسيناها أو على الأقل وضعناها جانبا دون أن ندرك ذلك.
نتساءل بماذا انشغلنا كل تلك السنين ؟ ماذا فعلنا في كل تلك الصباحات الكثيرة والنهارات العديدة ، والأمسيات التي بلا عدد ؟ أين كنا نذهب وفي أي شيئ كنا نسكب رحيق العمر ؟ خلف المكاتب بلا شك وفي الثرثرة والشكوى والملل والرغبات والطموحات والصراعات والجري خلف الأحلام والأوهام معا ! زمن طويل مر بنا ونحن نعمل ونجتهد ونؤسس هذه الكيانات التي أصبحناها أخيرا ، زمن طويل ونحن نتلقى التقدير والتكريم والمحبة والاحترام كما تلقينا الصدمات وعشنا الخلافات على حد سواء ، هو العمر يمضى قاطعا الضفتين قد حمل لنا من هنا ومن هناك الكثير ومنحنا ما نتمنى واكثر أحيانا لكنه افقدنا أشياء أخرى جميلة كان فقدناها ثمنا !
بالرغم من الألم ذاك إلا أنه الم حميم دافئ يجعلك اقرب إلى ذاكرتك ونفسك ، اكثر قدرة على فحص أيامك والعابرين فيها ، فالأيام لا تمنحك حكمتها أو صلابتها دون أن تدفع ثمنها كاملا ، حتى إذا مررت بألم الذكرة خرجت منه أكثر وعيا بما أنخرت واكثر رضى بما أنت عليه اليوم ، وأكثر يقينا بأن الأصدقاء مخازن الأيام وحفاظ العمر وبأنهم ومهما طالت غيبتهم لا يتبددون، لكنهم يزهرون في حدائق أعمارنا في غفلة منا !


ayya-222@hotmail.com