يوم أمس فجع الوطن بفقد رجل من رجالات الرعيل الأول، ساهم في وضع اللبنات الأولى لواحة الأمن والأمان التي ننعم اليوم بظلالها الوارفة، وبنى بروحه الطيبة السمحة نسيجاً واسعاً من العلاقات والروابط الإنسانية مع كل من عرفه واقترب منه وعمل قربه، رغم خطورة ومهابة المسؤولية التي نهض بها منذ مراحل مبكرة من نهضة هذا الوطن الغالي، بالقرب من مؤسس وباني الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه. ومنذ أن اكتحلت أعيننا بشرطة أبوظبي ارتبطت في أذهاننا هذه القوة بالرجل الذي فقدناه بالأمس الشيخ مبارك بن محمد آل نهيان رحمه الله، الذي لم يتوان عن احتضان قوة الشرطة في قصره، لتبدأ انطلاقتها حتى وصلت اليوم إلى ما وصلت إليه مع مختلف أجهزة وزارة الداخلية التي كانت في شقق ومبان متفرقة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى إحدى العمارات داخل مدينة أبوظبي قبل أن تستقر في مبناها الحالي الذي يقف شاهداً على بصمات الشيخ مبارك. لقد كان الراحل أخاً ووالداً للجميع في جهاز الشرطة ووزارة الداخلية، ولكل من عرفه واقترب منه في تلك المرحلة من مراحل بناء هذه الأجهزة، ومعه المرحوم حمودة بن علي وثلة من رجالات الرعيل الأول في سلك الشرطة والأمن العام. كان يحرص على التواجد بين رجاله بكل حب وتواضع ودماثة خلق وكرم سجايا عرف بها. وقد كان اعتيادياً بعد يوم عمل شاق أن تجده يلعب “السنوكر” مع من تواجد لحظتها في الموقع القديم الذي كانت شرطة أبوظبي تتخذه مقراً لناديها، وهو يعرفهم ويخاطبهم بالاسم. فقد كان قلبه الكبير يتسع ويستقبل بالحب والعطف الجميع. وأشرف على البعثات الأولى من أبناء هذا الوطن وهم يتوجهون للخارج لتلقي العلم والتأهيل لتعزيز سلك الشرطة والأمن في مسيرة الارتقاء بهذا الصرح الكبير. لقد كان حريصاً على متابعتهم كما يتابع الأب أبناءه في مختلف المواقع والمناصب التي وصلوا إليها، وحتى في مناطق وبلدان ابتعاثهم يحرص على متابعتهم وهو يؤكد لهم أن يكونوا مثالاً للانضباط وحسن الخلق ويكونوا خير سفراء لبلادهم. ومنذ حادث السير المؤسف الذي تعرض له قبل أكثر من عقدين ظل قصره في البطين يسجل أروع معاني البر والوفاء للرجل الذي ظلت ابتسامته المشرقة تشيع الدفء والتفاؤل والطمأنينة على الجميع، ممن يفدون إلى القصر ويلتقونه، ومعالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان في مشهد متصل من البر والوفاء، في مجلسه تجد رجالاً من مختلف الأعمار والرتب يجمعهم الحب والوفاء، وهم يستذكرون قصص وذكريات تلك البدايات الأولى التي شهدت الغراس الأول ووضع بذور ما نحصد اليوم في إمارات الحب والوفاء. تشرق بك الأيام وتغرب في تلك الذكريات، ولكنها سرعان ما تعود وتتركز عند رجل لا تفارقه الابتسامة والكلمات الأبوية الحانية. وفي هذا المصاب الجلل نرفع خالص التعازي والمواساة لشيوخنا الكرام، سائلين المولى عز وجل أن يتغمد فقيد الوطن بواسع رحمته وعظيم مغفرته ويسكنه فسيح جناته، ويلهم ذويه الصبر والسلوان، ولا نقول إلا كما يقول الصابرون” إنا لله وإنا إليه راجعون”.