عشت أياما لا تنسى في مدينة ماديسون بولاية وسكنسون الأميركية خلال الفترة ما بين أغسطس 1977 وأغسطس 1978. ولا أزال أذكر رحلاتي المتكررة مع مايكل وألن إلى مدينة شيكاجو، حيث تعرفت عن قرب على الثقافة الأميركية السوداء. وكان المدخل هو موسيقى البلوز bl es وهي موسيقى حزينة، تصحبها أغان حزينة، يرجع أصلها إلى السود الأمريكيين الذين كانوا يرددونها في أيام عبوديتهم التي شهدت من المآسي الكثير، ولم تكن تنفصل عن موسيقى الجاز jazz التي كانت محلا لبراعة السود الأميركيين على وجه الخصوص. وسرعان ما عرفت أن مدينة شيكاجو مركزا لموسيقى الجاز وأغانى البلوز، وما أكثر ما ذهبنا، في أشهر إقامتي بالقرب من شيكاجو، إلى المحال الشهيرة المختصة بالجاز والبلوز على السواء. وغابت عني أسماء أشهر المغنيين السود الذين كنا نذهب إلى استماعهم، ولم أكن أذكر جانب المرح واللهو في هذا النوع من المتعة الجمالية، بل الجانب المحزن الذي كنت أسترجع فيه نضال العبيد السود في الولايات المتحدة إلى أن حصلوا على حريتهم، لكن ظل التمييز العنصري قائما لا يتزعزع، رغم ما حققه الرئيس الأميركي كيندي الذي ناصر الحقـوق العادلة للسود الأميركيين، وأصدر قانون الحقوق المدنية الذي حال دون استفحال التمييز العنصري، وقام بالإشراف الحاسم على ما عُرف باسم التمييز الإيجابي (Positive discrimination). وبمقتضى هذا التمييز الإيجابي تكون هناك نسبة من الوظائف مخصصة للسود في كل مجال من مجالات العمل والتعليم، ولذلك كنت ألحظ أعدادا كبيرة من الطلاب والطالبات السود في جامعة ماديسون، وأعدادا أكبر في جامعات شيكاجو العريقة، وأذكر منها جامعة شيكاجو التي لا يزال يعمل فيها صديقنا فاروق عبد الوهاب الذى ترجم رواية “الزيني بركات” لجمال الغيطانى إلى اللغة الإنجليزية، وقدّم للترجمة إدوارد سعيد الذي تعرفت عليه وصادقته بعد ذلك بسنوات عديدة. وكان إلى جانب جامعة شيكاجو جامعة إلينوي التي كان يدرس فيها صديق مصري مبعوث لدراسة العلوم من جامعة القاهرة. وهناك أخيرا جامعة نورث وسترن التي كانت مشهورة في مجال العلوم الإنسانية بدراسات الهرمنيوطيقا hermene tics أو علوم التفسير التي يرجع أصلها إلى تفسير الكتب المقدسة وتأويلها، ولكنها تحولت إلى تيار في النقد الأدبي يرتبط بمشكلات تفسير النص الإبداعي وإمكان تعدد تأويلاته. وهو منحى اقترن بالازدهار الموازي لما أصبح يسمى نظريات الاستقبال التي جعلت مركز اهتمامها منصبا على تعدد مستويات تلقي القارئ للنصوص الأدبية، واختلاف هذه المستويات باختلاف الثقافة والسياقات السياسية والاجتماعية والفكرية. وكم أخذت مني الهرمنيوطيقا ونظريات التفسير جهدا وحرصا على الفهم والتعلم، إلى الدرجة التي جعلتني أختص جامعة نورث وسترن بزيارات مستقلة للقاء عدد من المختصين في هذه الجامعة العريقة.