يدخل الشاعر مدينة الزمن مفتشا عن جواهر الحكمة المخبوءة في الكلام، عن الدرر التي نثرها من خبروا الحياة وعرفوا اسرار تقلباتها. لكنه لا يعثر الا على الحصى الصلد وقد تلون باصباغ شتى حتى صار البعض يظنونه ذهبا. وفي نهاية عمره، عندما يبطئ الخطو ويحمله عكازه الذي على شكل قلم ضخم، يكتشف الشاعر ان الكلمات والافكار التي كان يطارد معانيها في كهوف الزمان البعيد، انما هي مهملة وملقاة امامه في الطريق. في الشارع الذي يذرعه يوميا وهو يحدق عاليا في القمر الناقص، بينما في الزوايا والهوامش تنام المعاني وقد اكتمل نضجها ومع ذلك لا احد ينبري لقطف نبوغها. وحين يتلفت بين الناس لن يفرق بين المجنون والعاقل، وسيراهما يتجاذبان شعرة رقيقة لا ترى، شعرة وهمية، لكنها اقوى من الحديد. وسيدرك بعد فوات الاوان، ان الصراع بين العقل والجنون لا يحسمه السيف، وانما الاحتكام الى القلب ولا شيء غيره. وسيكتب الشاعر بعد ذلك ان الذهب لا يلمع في الليل، وشمس الحقيقة وان اشرقت على العقول للحظات، تعود لتغرب وتنام في مستقرها، وعلينا لكي نضيء وجودنا ان نستحضر النور من القلوب التي لم يلوثها الحقد، القلوب العاقلة في توازنها بين الضدين. يدخل الشاعر مدن الانفلات فيرى الاطفال يبتلعون الرصاص مثل قطع الحلوى، العابهم المفضلة الكبريت والنار وغيمة الدخان. الامهات يخبزن عجينة الندم مخلوطة بالدموع الحارقة الى درجة ان الدخان يصاعد منها، والرسام يحتار كيف يجمع في لوحة واحدة بين القاتل والقتيل، واي الالوان تصلح ان تكون متضادة في معناها لكنها منسجمة في الشكل لاكتمال تناسق المشهد العبثي. وسيكتب الشاعر عن نظام الفوضى لكنه يقصد فوضى النظام، وسيصف البحر بالهيجان، لكنه يرمز الى محنة السفن التي تهم بالمغادرة فتعيدها الموجة العالية الى نقطة الصفر، وقد يصعق البرق قبطانها ويشطرهما الى نصفين. يخرج الشاعر من مدن طفولته الاولى ولا يعود اليها الا ليدفن ويموت، غريبا متسكعا في قطارات المتاهة التي لها محطة واحدة هي للنزول الذي يخافه. وفي ترحاله هذا يجرّب التسكّع في الصقيع ملسوعا في العظم، وينام في حدائق العراء ملتحفا بقصاصات من جرائد الامس. تتبعه الكلاب الضالة في ازقة الخوف، ويطرده العسس المدججون بالقواميس من مكتبات الحفظ والتلقين. ويخوض الشاعر كل ذلك كي يجرّب الحياة، كي يسمح لزهرة المعنى ان تتفتح امامه مرة فيقطفها ويزرعها في القصيدة حتى لو ادمت الاشواك يده وسال حبر قلمه وجف. عابرا كأنه في مكانه، يترع الشاعر الدنيا مدينة بعد اخرى، اولها مدينة الرؤى والاحلام يسبح داخلها مغمض العينين لكنه يرى المستحيلات كلها تتحقق بسهولة ويسر. وحين يفتح عينه تختلط الكلمات والاشياء بالرموز والاشارات والالوان، فيصير المعنى بألف وجه وتتشتت الحقيقة في مدن بلا حصر. بماذا تنفع السهام اذا انقطع وتر قوسك في المعركة بماذا ينفع العود وريشته اذا تراخت اوتار روحك وبمن تلوذ اذا طردتك المدن المحروقة من نعيم جحيمها عادل خزام | akhozam@yahoo.com