ستظل هناك أماكن يتمنى المرء أن يراها أو تظل هي تُلِّح عليه بين الحين والحين، أماكن يتمنى أن يزورها قبل أن تتبدل، ويلحق بها التغيير، وتتحول لمدينة استهلاكية وسياحية ساذجة، ثمة أماكن بعيدة يغمرها الماء أو محاطة به، ولا يصلها الإنسان إلا بشق الأنفس، لكن إن وطأت قدماه يابستها، أدركته الراحة بمعانيها، وعرف قيمة الصمت والسكون، هناك جزر تنادي من بعيد، ومدن ما زالت تكتسي بغبرة التاريخ الذي لا يود مفارقتها، «هافانا» مثلاً قبل أن تتخلى عن إرثها الاجتماعي، وتنجرف لحالة المدن الأميركية، تملأها «المولات» ومطاعم «الفات فود»، وتلك البضائع الصينية رخيصة الأجر والأجل، هناك مدن تعتلي قمم الجبال، كقرى بعيدة وخالية في هضاب «التبت»، حيث صلوات الطمأنينة، ومناجاة السماء، هناك ثمة طرقات متعرجة وخضراء في جبال «الأنديز»، على الإنسان أن يدركها قبل أن ينقضي العمر في التجوال في المدن الصاخبة بكل شيء. يظل الإنسان المثقل بالأسفار، وتعب الترحال يحنّ لمدن قديمة، عاشت لتشهد، وخضّتها أحداث تاريخية على مر العصور، مثل «طشقند وبخارى وسمرقند»، يمكن لإنسان محب أن يجلس بقرب فرن طيني يتعامل فيه احتراق حطب الغاب في «داغستان»، ليحظى بسخونة تلك الخبزة المعمولة، والخارجة للتو من أتون الفرن الطيني، ومن تحت يدي تلك المرأة الممتلئة بالعافية، لما لا تكون قرى في الشرق الأقصى التي ما زالت على بدائياتها الأولى، هي محط نظرة العين؟ حيث الفجر مساحة من وقت وتأمل، ويقظة الحياة، حيث أكلها البسيط يقدم على غصن شجرة خضراء، وشرابها الشاي الأخضر المقطوف من حديقة البيت، والنَّاس فيها لا يكفّون من الدهشة نحو الغريب، لما لا تكون منازل صنعها الإنسان من صوف الأنعام في أقاصي الصين أو في بلاد بيضاء بالثلج في نواحي القطب؟ ما بالها قرى أفريقيا بين غاباتها السوداء، ومتعة النوم غير المتقطع في تلك المنازل التي يكال على سقفها من شجر الغاب، ولا توقظك إلا أصوات الحيوانات في براريها؟ هناك قرى للصيادين صباحها مختلف، وقرى للشتاء فيها رائحة حطب المواقد، وشواء الكستناء، وقرى في مهبط الهضاب، مزروعة في بساتين التفاح والحمضيات وفواكه أبّاً، تحاصرها الجبال، فلا تسمح إلا لضوء الشمس أن يشرق عليها، هناك مدن صغيرة في أرياف أوروبا وادعة، لا تجد للنميمة فيها سبيلاً، ولا ما يثقل القلب من صغائر الدنيا. سيظل يشقى الإنسان التوّاق للأسفار أن يرى أماكن مختلفة، وأبواباً ونوافذ لبيوت تختلف عن بيت جاره، مقهى على جرف جبل أو مطعماً لا يفارق اللون الأزرق عيون مرتاديه، كنيسة باردة بالأسرار، وترانيم الإنسان حين عرف الإيمان لأول مرة، مساجد بنيت لتعمر كما في «سراييفو» مثلاً، معابد لليهود والبوذيين، حيث دفنوا الكثير من أسرار حبرهم، وطلاسم أدعيتهم.