لا أعتقد أن شيئاً زلزل كيان العرب، وجلب لهم التقهقر، والرجوع للوراء بسنوات كونية عن غيرهم من الأمم المتحضرة مثل هزة الرأس على الطالع والنازل، ردة الفعل تلك يمكن أن تصلح عندهم لكل الأشياء، وهي دواء لكل الأمور، والبعض يهز رأسه، فلا تعرف هل هو موافق أم لديه بعض التحفظ أم رافض المسألة برمتها، أم يعمل ذلك لأنه لا يريد وجعاً لرأسه؟ ويريد للمسائل أن تسير في انسيابية وحدها، بعيدة عنه، ولو كانت تسلك منهجاً خاطئاً، هناك بعض من الناس وقبل أن ينهي الآخر جملته غير المفيدة، تجده هز رأسه أكثر من مرة، مشكلة هز الرأس أنه يلجم الإنسان، وينسي الاعتراض أو الاحتجاج أو التصويب أو حتى المشاركة التفاعلية، وهو يفسد الروح ويجعلها سوداء، ضعيفة لا تعرف غير كلمة نعم، وحاضر.
والدراسات التي اختصت العرب ومعرفة عيشهم ومعيشتهم واتساع صحرائهم، وما جبلوا عليه من قساوة الحياة، لا تشير لشيء من هذا الخنوع الأزلي، والكسل التثاؤبي وهزة الرأس المهادنة عندهم، كانوا يشرعون أبوابهم للريح، وما تجلبه من الجهات الأربع، متصادمين أو متسامحين معها، ودوماً يتركون نوافذهم للشمس، جالبة النور وطوالع اليوم الجديد، كانوا يسبحون ضد التيار حين تتطلب الأمور ذاك، وكانوا ينحنون كسنبلة مثقلة بالخير لكي تمر العاصفة، إن استلزمت المسائل ذلك، لم يكونوا يوماً مطأطئي الرؤوس، ولا مدلدلي الرقاب، كانوا يسمون الأشياء بمسمياتها، ويعرفون قدر كلمة نعم، حين ينطقون بها، وحدود «لا»، وما تصل إليه العواقب حدّ سيل الدم، حتى جاء زمن الرماد، فأصبحوا لا يعرفون «لا»، إلا في تشهدهم.
اليوم.. كثرت كلمة نعم، وانعدمت كلمة لا، ولو كان الآخر السائل يريد النصح والإرشاد والاستئناس بسداد الرأي، لكن المسؤول يرى أنه كلما هون الأمور على السائل، ورطَبّ المسائل، وفرش له دروباً من عشب أخضر كان محبوباً، مقبولاً، حائز الرضا، وله دنو المكانة عنده، وهناك من السائلين من يريد جس النبض عند المسؤول، فإن طرح عليه أمراً، فلا يريد كلمة «نعم» رطبة، ولا يريد كلمة «لا» خشنة، يريد كلمة بينهما مثل «لعم»، والبعض من السائلين العارفين ناشدي الحكمة يريد من المسؤول ما وراء «نعم»، إن قالها، وإن قال كلمة «لا» يريد ما ورائها، لا تعجبه تلك الكلمة الطائرة كريشة في الهواء أو المواربة على حقيقتها.
كلمة نعم فتحت ثغوراً كان عليها مرابطون، وتسلل من خلالها أعداء لداخل قلاع مشيدة، وضيعت أوطاناً في الفساد والجهل، وكلمة لا علقت صادقين ووطنيين على حبال المشانق، وساقت شرفاء وسط قهقهات ونظرات من الكذابين والجبناء نحو حتوفهم التي لا يستحقونها.. «لا» تلك المعصية الأزلية التي يؤمن بها غير الواثقين بالكرامة والنُبل والحياة الشريفة.