عرف العرب الكتابة والخطّ منذ عهد الجاهليّة الأولى، فكان الناس يكتبون ويحسُبُون، فلما جاء الإسلام دخل فيه عدد كبير من الكتَبَة، وهم الذين كتبوا الوحيَ حين وقعت الهجرة إلى المدينة. وكانت الطبقة العليا من قريش يحسنون الكتابة، ولذلك كانتْ فِدْيةُ فكِّ أُسَارَى بدْرٍ أن يعلّموا الكتابةَ غلمانَ المدينة. غير أنّ الكتابة كانت في أوّل أمرها بدائيّةً إلى الحدّ الذي لم تكن معه الحروف مُعجَمة، كما كانوا لا يكتبون الهمزَ فوق النبر، وقد نشأ عن ذلك وجودُ ألفاظ لا نزال نكتبها بتلك الطريقة منها لفظ “مائة” الذي اضطُرَّ الكتبةُ القدماء إلى إضافة الألف بين نبرة الهمز والميم ليميّزوا بين لفظي “مئة”، و”منه”، وذلك لانعدام استعمال الهمز فوق النبرة من وجهة، وانعدام إعجام النون من وجهة أخرى. وقد ألفَينا أجدادَنا من قدماء العلماء عُنُوا بهذه المسألة الثقافيّة الحضاريّة عناية شديدة، فوردت في خمسة وسبعين مصدراً. وقد نشأ عن أبجديّة الكتابة أساطيرُ ومعتقداتٌ كثيرة منها حِسابُ الْجُمَّل الذي ربَطه السَّحَرة بالنجوم ومنازلها وتأثيراتها في الأرض والناس. وقد عقد ابن خلدون في مقدّمته فصلاً عن هذه المسألة انتقَد فيه ما كانوا يعتقدون. ويبدو أنّه كان لذلك كلّه عَلاقةٌ بما جاء في آخر كتاب السياسة لأرسطو، فكانوا يزعمون أنّهم يستطيعون معرفة المنتصر والمنهزم من المتحاربين قبل وقوع المعركة بينهما، وذلك بالنهوض بلعبة الحروف حين وضعوا لها قِيَماً حسابيّة فأصبح الألِف يساوي واحداً، والباء اثنين، والجيم ثلاثة، وهلمّ جرّاً... ولذلك كنّا نجد كَتَبَة الْحُرُوز يضعون جداولَ، في أغلبها، يملؤون مربّعاتها بحروف غير مفهومة. وهم إنما توارثوها عن القدماء الذين كانوا يسعَوْن إلى معرفة أسرار هذه القيم الحسابيّة بوضْعها مقابِلاتٍ لحروف بأعيانها، ثمّ استخلاصِ حِكَمٍ منها: “وحساب الْجُمَّل: حساب يفهمه الْحُسَّابُ، وهو حسابُ الجمّل الصغير، والجمّل الكبير على حساب أَبَجِد، هَوز، وأكثر ما يستعمله المنجّمون”. ولَمّا ربَط الْحُسّابُ قيم الحروف بقِيم الأعداد لأغراض عمليّة فرتّبوها بحسب قِيَمها العَدديّة من الدنيا إلى العليا، ربَطها المنجّمون بمعتقداتهم فجعلوا أبجد، هوز، حطيّ، كلَمْن، صعفص (وأصلُها: صعفض) إلخ... أسماءً أطلقوها على قدماءِ حاكِمِي مكّة وبعض المدن العربيّة الأزليّة الأخرى، كما أورد ذلك المقريزي “فكان أبْجد: ملكَ مكّة وما يليها من الحجاز، وكان هَوَّز وحطيّ: ملِكين ببلاذَوج وهي الطائف وما اتصل بذلك من أرض نجد، وكَلَمُنْ وصعفص وقَرَشَتْ: مُلوكاً بِمَدْيَنَ”. في حين جعلها بعضهم، كما يذهب إلى ذلك الطبري في تاريخه، أسماءً للأيّام السّتة التي خلق اللّه فيها السموات والأرض فإذا اسم اليومِ الأوّلِ: أبْجد، واسم الثاني هَوَّز، واسم الثالث حطيّ إلى السادس الذي اسمُه قَرَشَت. وواضح أنّ هذه الكلمات بعضُها موافق لكلام العرب وبعضها الآخر لا معنى له في لغتهم. وكانت هذه المعتقدات جاريةً في الثقافة العربيّة منذ العهد المبكّر حيث ذكرها الخليل في معجم “العين”، بل ذَكر القاموس أنّهم وضعوا الحروف العربيّة على عدد حروف أسماء الملوك الذين ذكرْنا بعضهم.