اللامعقول هو حين تجدف في بحر شاسع من دون أن تبدو المحطة الأخيرة شاخصة.. فربما إن الحياة لا تتصل بالحياة، ولكن الحقيقة فيما نحسبها قد تجسدت في إطار من المعمعة بما يكفي، والصورة بدأت أكبر من واقعها، مكثفة الرؤى والحجج، موعودة بالهيمنة المتحضرة وبالتغليف الحضاري، بالصراعات المؤجلة ترتمي على قدر من أهميتها، قيمة فاترة الأحلام، لا تكف عن صنع المراد المزيف والمجاز، خيال من التضاد خاوي من الحب، ومواسم من الكراهية النقية والفوضى العقلانية، فلا خلاص من القوة المهجنة والمتوارثة بين الشعوب، ولا جدوى من الصورة المركبة والتقنية المتكافئة في إطار الكذب المعشش في ذاكرة الرؤوس، في زمن صورة المبادئ الملوثة.. والصورة المهتزة باجترارها القوي، والتي من الممكن ككتلة إعلامية أن تصنع دولا من خواء وأن تزيل قلاعا عصى الزمن على هزيمتها. زمن جميل وحسبه يرسم العبقرية على فرادة الشعوب، لتسهب في مدها، لترسم الغصون حول جدار السماء، وتشكّل الحديقة بالأنامل، وتنفح العطر في الورود، وتجعل الطيور تصدح بالحرية، وتغرد أمام مسرح الدهر، لك الكيان ولك القلب، لا صوت يعلوا على صوت الأمم، صوت مدجج بالنار، لا تساوي بين الحدائق الغناء والهواء النقي بين أسوار البيت. كم تهجى العالم الموت والضياع، وكم من البؤس تجدد، وكم من الدمار ما استبد وطغى، وكم من الأعداء توالد كالجرذان، تآلف ما آلف، لكن فجأة تفرق المتآلف، وقيل إن شططا أصاب أمما بائسة جانحة، تيقظ لها المدى بعد أن ثقلت ضيما، وتوهجت من شدة ما سكنها من العبث وهي تلبس حذاء الاستعارة وترقص من هول ما رأت وعاشت. زمن المجهول بدأ ولا بد أن يبدأ، والمسير لا بد أن يقف بفعل حاجز ما، هو أيضا مكسو بالمجهول، مطرز بالهلامية القمعية. متشابكة هي الأيام والساعات، مترامية خيالات قليلة تتناصف مع الزمن المتفجر من جراء فرط الكراهية المسجية على أرض التنافر والنزف، تسفك أحلامها وتنشطر رويدا. أثر المجهول يفضي إلى حيز الأرض المجتمعة على الخواء، حتمية غريبة تلم قدرها وتسبح في فضاء النوى. غد باهت، وهجر منسي، وتلبد رث على أبواب المدن، شق احمرار رحب واكتظاظات مجهولة، ثمة أمر عاصف بكل القيم والمبادئ. وللبحث عن المبادئ لابد من لغة فصل، لكن الذي يبحر بنا نحو المجهول هو فضاء رحب، أولهم علمنا بأنهم لا يعلمون كل شيء، تلك الأمم التي تحاصر أفكارنا وأنفاسنا. الشعارات التي تعلمناها وكبرنا على وقعها تسقط على الملأ، قيم أخرى بدأت تعلو على الشعارات المزعومة، التي مرت علينا وتربينا على أنها المجد. باختصار ليس الزمن وحده هو المجهول وانما إرهاصات تسبقه وتحدد معالمنا بأننا في بوتقة المجهول، فلا يستطيع الحالم أن يحقق أحلامه إلا بعد أن يعرف هل يوصله الطريق إلى حيث يريد.