يتابع ابن خاتمة موشحته السداسية، مكرراً وصف النموذج الجمالي المعهود في ذاكرة الشعر العربي، مع بعض الصياغات والاختراقات التعبيرية فيقول: «يا ظبية الخدر في لماكِ/ شفاء ما بي من الألمْ ينهى على البدر في سناك/ وزاحمي الشمس من أَمم فلو بدا النجم في حُلاك/ ما غشيت أفقه الظُّلم من كان يلحى على هواك/ فمسمعي عنه ذو صمم زيفت ما صاغه اللواحي/ من قال وقيل/ في الوجه الجميل/ لا لوم يثنيني على رونق الأوجه الصباح/ فدع عن سلام/ صبّ مستهام/ فلومك يغريني» تستأنف المقطوعة خطاب المحبوبة وشرح حالات تجليها بأوصاف باذخة، فهي ظبية مستأنسة في خدرها، لكن لماها، أي سمرة شفتيها يشفي الشاعر من أوجاعه، ومن حقها أن تزهو على البدر في وضاءته، وتزاحم الشمس في طلعتها، ولو كان النجم في حسنها وحلاوتها لما حل الظلام بأفقه، أما من يلومني في هواك فسأصم أذني عن سماعه، لكن العبارة التالية لافتة للنظر في صياغتها، «زيفت ما صاغه اللواحي/ من قال وقيل/ في الوجه الجميل» فزيفت هنا لابد أن يكون معناها ذوبت أو صهرت أو ضيعت، مثل تزييف العملة المعدنية، فكأن أقاويل الناس وما يرجف به اللائمون قد فَقَدَ قيمته عندما طالع الشاعر وجه محبوبته، فالتزييف هنا ليس هو تقليد الأصل، كما استقرت دلالته اليوم، ولكنه كان يعني إهدار القيمة وعدم الاعتداد بالشيء الناجم أيضاً عن تقليده. ثم يقول ابن خاتمة في المقطع الرابع: «أما فؤادي الشجيّ فما لي/ حكم اختيار دلالَهُ فوضت أمري إلى الجمال/ يفعل بي ما بدا له ملكته القلب ما أبالي/ أنا له أم أنا لهُ من كان يشكو بسوء حالٍ/ قد رضى الصب حاله قيدت في الحب عن سراح/ بردف ثقيل/ كحقف مهيل/من أحقاق يبرين، قد هزّ في ملعب الرماح/ قدا كالحسام/ يقد الأنام/ فقد كاد يبريني» يجمع الشاعر في هذا المقطع بين أمرين: التلقائية الشديدة في التعبير عن المشاعر والأحاسيس، حتى لتبدو بعض الجمل كأنها صياغات منذورة للحفظ والتمثّل، مع بعض التصرف اللعوب في الصياغات مثل أنا له من النوال وأنا له «من كلمتين». ونرى اتجاهاً محافظاً على النموذج الوصفي الشائع في التراث الشعري، فالأبيات تصف خضوع العاشق لأمر الحب مكرهاً من دون اختيار، ثم تطلق هذا القول البديع «فوضت أمري إلى الجمال»، فتوجز مذهب الشعراء في تقديس الجمال، لكنها تعود في السطرين الأخيرين لتستحضر بشكل حرفي مدهش نموذج الجمال التقليدي للمرأة، فهي لابد أن تكون ذات ردف ثقيل، كأنه كثيب مهبل من الرمل، وإن كان موضعه «بيرين» وهي مكان أندلس قرب غرناطة، وقد غرس في هذا الحقف قد كالسيف يوشك أن يقد الأنام كلهم.. هذا النموذج الطريف راسخ في وعي شعراء المشرق والأندلس، لا يخرجون عنه ولا يجددون فيه..