لا شك أن للميكرفون والكاميرا رهبة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، أقلها أنهما لا يتركان الإنسان بغاية الارتياح أو يبدو طبيعياً، بل تتغير ملامحه فجأة، بمجرد أن يوضع ذلك المكبر أمامه، وتظل تلك العدسة تحصي أنفاسه، وتفتش في مسامات جلده، حتى أن شخصية بحجم مفتي مصر، وفي أول لقاء له مع الميكرفون والكاميرا، غلط في آية من القرآن الكريم، رغم أنه يحفظها عن ظهر قلب، فأمامهما يمكن للمشاعر نفسها أن تتغير، ويصبح المرء أليفاً وادعاً، مستبشراً، متفائلاً، ويظهر كل صفة إيجابية فيه للناس، نادراً جداً ما يظهر الإنسان، خاصة الموظف والمسؤول على سجيته، ويقول بصراحة متناهية، وشفافية عالية ما يشعر به تجاه الأمور، وكيف يمكن أن يبرر بعض الإخفاقات، يظل “يفلتر” أقواله، وينقح كلماته المختارة، ليظهر كل شيء في غاية التمام بقدر ما يتمتع به من مراوغة، وبلاغة، وإماتة الموضوع، وذر الرماد في العيون. الميكرفون والكاميرا.. هذان الاختراعان يجبران حتى الزعماء والديكتاتوريين على أن يتحلوا لحظة وقوفهم أمامهما بقليل من الحلم، وضبط النفس، وبعضهم حتى يضطر أن يكذب على الناس بوعود وتسويفات لكي يظهر أجمل في الصورة، ولكي لا ينقل على لسانه إلا ما فيه الخير للشعب، وخوفاً من مستمسك التاريخ، بعضهم كان يعض على الميكرفون بالنواجذ، فلا يتركه إلا بعد ما يتعب الشعب، وبعضهم كان يتوعد ويهدد من خلاله بطرف خفي، ويا ما أذاع البيان الأول للانقلابات الفاشلة، عجيب هذا الميكرفون وتلك الكاميرا يظلان “معبودين” عند غالبية الناس، ويطلب ودهما أكثر الناس، والبعض إن غابا عن حياته، انطفأ فجأة، وغدا أعزل، وفقد ذلك الحضور الكاذب بين الناس، بعض الناس أمام الميكرفون والكاميرا يمكن أن ينسى معلومة أو تضطرب عليه الأمور، ويمكن أن ينسى الفكرة من الأساس، وبعضهم لا يمكنه أن يكوّن جملة صحيحة ومفيدة، وبعضهم تقبضه رجفة لا يمكن أن يخفيها عن أعين الناس المتصيدة، فتجده يكثر من حركات يده، ويجف ريقه، ويراوح إن كان واقفاً الاعتماد على إحدى قدميه، وبعضهم يأتي إلى الميكرفون بخطوات متباطئة وخجلى، وما أن يقف أمامه حتى يضربه بطرقات ليتأكد من فاعلية الصوت أو يقرب فمه ويتحنحن أو يصدر صوتاً، وغالباً ما يكون “ألو..ألو”، وكل ذلك لكي يتخلص من الاضطراب، ويشتت العيون الشاخصة، هناك فئة من المربكين، هؤلاء عادة ما “يلكشون” الميكرفون فيسقط، أو يحاولون تجريب الصوت، فيصدر من الميكرفون وَزّ وصرير يصم الأذان، ومرات كثيرة جداً لا يعمل الميكرفون رغم جهوزيته، وبسبب عطل فني طارئ، أما الكاميرا فشروطها كثيرة، أولها الأناقة، والتبرج والزينة، ولكنها معشوقة الجميع دون منازع، ربما بسبب أننا نعشق المرايا، ونعشق أن نرى أنفسنا، ونحب أن يرانا الناس “كريستاليين”!


amood8@yahoo.com