على الرغم من التخصص الدقيق الذي يقوده إلى منصب أكاديمي، من المفترض في الأستاذ الجامعي أن يكون قد مر ببحر معلومات، وثقافات، ونظريات، قبل الوصل إلى مجاله الخاص، تؤهله للتعامل مع الفكرة انطلاقا من أرضية واسعة، تنطلق من الحاضر نحو المستقبل، مستنيرة بتجارب الماضي، ليشكل هذا المثلث التاريخ البشري والإنساني. وبناء على هذا، فإن الأستاذ الجامعي أقدر من غيره على استنباط الأفكار والوصول إلى النتائج، التي غالبا ما تكون، أو هكذا يفترض، منطقية وواقعية، أو على الأقل ينظر إليها نظرة جدية، فهي نتاج بحث علمي، وبعيدة عن الانفعالات والانطباعات السريعة، ومن هنا، نتوقع أن يلعب الأستاذ الجامعي دورا مؤثرا في تطور المجتمعات، بمقولاتها، وقيمها، وإشكالاتها، وما يمكن أن يترتب على هذا التطور من انحراف أو انعطاف أو انخطاف. وإذا كان الأستاذ الجامعي بشكل عام، عليه مسؤولية أخلاقية نحو مجتمعه، فإن أستاذ التاريخ والمجتمع، يتحمل مسؤولية مضاعفة، وكما قالت الدكتورة فاطمة الصايغ، الأستاذة في جامعة الإمارات، في حديثها باتحاد الكتاب بأبوظبي قبل أسابيع قليلة، ومستشهدة بقول للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، من ليس له ماض، لا حاضر له ولا مستقبل، مؤكدة على أن التاريخ ليس مجرد أحداث قديمة، رواها المؤرخون كلّ حسب انتمائه، أو مصالحه أو تطلعاته، وإنما التاريخ هو سلسلة من الحوادث التي مرت في حياة الإنسان وتطال وقتنا الحاضر، ولهذا، فإن تأثيرها على المستقبل مرتبط بطبيعتها، وقوتها، وضعفها، وتحالفاتها. وتطرقت الدكتورة الصايغ إلى العديد من القضايا التعليمية والاجتماعية الراهنة، وما يمكن أن ينتج عنها في المستقبل، ولاسيما في ما يخص الأجيال الصاعدة، وطبيعة الشخصية التي ستحملها، ونسبة تبعيتها أو استقلالها، واللغة التي ستتحدث بها، والقيم التي ستتحكم بالتعامل والمعاملة بين أفراد المجتمع، وشكل الخصوصية التي ستتحلّى بها. إن النتيجة التي يتوصل إليها الأستاذ الجامعي ليست رأيا خاصا، أو انطباعا تصوغه الهواجس الشخصية، وليست موقفاً سياسياً، وإنما هي نتاج بحث علمي، ولهذا، فحين تنظر الدكتورة الصايغ إلى المستقبل بعين الخوف والحذر، يجب ألا يكون رد الفعل دعوتها للتفاؤل وعدم التشاؤم، وتذكيرها بالإيجابيات، لأنها بكل بساطة، لا تتعامل مع الإشكالية من منطلق الإيجابيات والسلبيات، وإنما من منطلق توفّر حقائق عبر التاريخ، ستؤدي إلى حقيقة مستقبلية، وإن مواجهة الفكرة العلمية بالموقف التوافقي، عملية لا ترتقي بالفكر الناقد، ولا تؤسس لحراك ثقافي ونقاش على مستوى عال من الإدراك. من المفترض أن يكون دور حملة الدرجات الأكاديمية العليا جميعا، وعلى الأخص حملة الدكتوراه، دورا تنويريا، وقياديا، ورياديا، على صعيد الفكرة، والحدث، والقرار، فهم الجهة الاستشارية للمجتمع، ولهذا، فإن منجاتهم في صدقهم، وأحقيّتهم في حمل هذه الدرجة، تكمن في خدمتها للحياة الإنسانية بتجلياتها كافة. أنور الخطيب akhattib@yahoo.com