تشدك تلك المدينة، تستحوذ على عقلك، ثمة شيء يجعلك ترغب البقاء فيها مدة أطول، غير أن خيبات الأمل تلاحقك بعد أن ضيعت حقيبة أحلامك التي ربما نسيتها في محطة من محطات العمر بعد أن أصبحت مثقلة بالأحلام المتراكمة التي لم تتحقق. العمر يمضي مسرعا وها أنت لا تجد غير ذرف الدموع على الأطلال والهروب من الماضي السحيق الذي يطاردك بل والهروب من أوهامك التي تتصور لك على شكل ألف لعنة ولعنة وصمت بها. ها أنت تعود إلى عزلتك، تقبع وحيدا متكورا على نفسك، تتعلق بالأمل وتبحث عن السلوى في غياب الوعي وفي النسيان، تعود إليك تلك الفتاة اليابانية لتنتشلك من بؤسك بضحكاتها الطفولية، تعاهد نفسك للمرة الألف ألا تبقى وحيدا مرة أخرى. تعود إلى شوارع المدينة تذرعها والفتاة تتأبط ذراعك، تركض أمامك، تضحك، تقرر الذهاب معها إلى قريتها النائية، حيث الجبال والطبيعة والخضرة، وحيث كل شيء عفوي طبيعي، بعيدا عن صخب المدينة. تجد في ذلك استعادة لروح المغامرة، تنتعش، تسافر بالقطار، بعد ساعات تنزل في محطة نائية، تسير على قدميك بين حقول الأرز، تمتطي الأحصنة معها، تتوقف على التلال الخضراء لتستنشق الهواء النقي، تصل إلى بيت جدتها، تجد ترحيبا من القرية بأسرها، الزوار هنا نادرون، فلا أحد يزور هذه القرية إلا أبناؤها، تحدثهم هي عنك ويحنون لك رؤوسهم ترحيبا، تحاول أن تتحدث معهم باليابانية فيضحكون عليك، يسخرون من مظهرك المختلف عنهم، ربما لأنهم لم يروا في حياتهم شخصا مثلك، تشعر بأنها في حديثها عنك تتفاخر بك، وذلك يجعل المسألة صعبة عليك، لأنك لابد أن تغادر هذه البلاد، لا بد أنك ستتركها، كما تركت غيرها، لأنك لم تجد ذاتك الضائعة بعد. في المساء تعود إلى طوكيو، تغرق في زحامها، في أضوائها، في صخبها، بين الحشود، بين السياح والسهارى، تدخل نادياً ليلياً، تمارس طقوس أبناء المدينة، تنغمس في رقص جنوني بين مئات الشباب، لأن ذلك يجعلك تبدو طبيعيا، يجعلك تشعر بأنك تمارس الحياة كبقية سكان المدينة. تشعر بأن الوقت قد حان لمغادرة المدينة، لأنك لا تستطيع الاستمرار أكثر، لأن الوقوع في الحب يخيفك فقد نذرت ألا تعشق مرة أخرى. في الصباح الباكر تذهب إلى المطار من غير وداع، تترك لها رسالة تقول لها إن أمرا طارئا حدث وأنك غادرت. تجلس في صالة المسافرين، تغرق في أوهامك، في أحلامك، تستعيد لحظاتك الجميلة حتى تجد نفسك تمارس كراهية الذات مرة أخرى. rahaluae@gmail.com