تنبع الرغبة في فعل التأمل من عناصر المعرفة الكلية التي تكون شخصية المتأمل وبنائه الداخلي. لأن التأمل أحد أهم تجسدات الأنشطة الخلاقة للدماغ البشري، إذ به تنبني العلاقة الأكثر متانة بالمعرفة والواقع والذات. و التأمل يشبه حركة الغوص العميق الى قاع الماء للقبض على حبة رمل، أو التحديق في الجزيئات المتناهية الصغر، إنه الانسحاب من عالم خارجي مليء بالتناقضات والضجة والاختلاطات، الى عالم الذات، الى الداخل نحو الانصات العميق لحركة الوجود داخل النفس. التأمل ارتحال مع فكرة أو صورة، أو مشهد، لمعرفة ماهيته وما يحيط به وما يكونه. وهو التواشج الحميم مع النفس وحديثها وبثها.. في التأمل ينصت العقل والنفس والكيان كله إلى حركة الوجود في تبدلاته وتغيراته، وإدراك أسراره العميقة التي لا ترى في الصخب وضجة اليومي.. في التأمل نرى بالبصيرة، ونسمع بالصمت، وندرك بالحدوس، ونهجس بالروح.. ونحب بأعمق خلايانا وأصفى مشاعرنا. والتأمل ليس هو الاعتزال وهجر الحياة ومسراتها. بل هو لذة التعمق في الناس والمحبة. لكن التأمل كفعل، تحققه اشتراطات لا تتوافر في محيط الكل، إذ إن من شروطه، قدرة المتأمل على الخلود الى النفس في عزلة مكانية وزمانية ونفسية. إنه القدرة على أن تجلس وحيداً تماماً، على مدى ساعات أو أيام دون ان تستشعر الوحشة.. إنه القدرة على معايشة الداخل والأنس بالنفس لاكتشاف عوالمها.. امتلائها وكينونتها. أن تتحد معها وتتألق في حضورها. لأنك بذلك تنقي شوائبها، كي تنمو في عافيتها، رخية، مكتنزة، عميقة، ومتينة البنيان. إننا نعطي الكثير من الوقت والطاقة والعمر للروابط العامة: الأصدقاء، والمعارف العموميون، العائلة، العمل، الضجة الخرقاء. بينما تقبع النفس في وحشة وعزلة واغتراب، وهي التي تنصهر فيها سيرورة وجودنا منذ الولادة حتى الموت. في النفس يتم صنع شخوصنا وتحديد معالمها وماهيتها. لكننا في الأغلب لا ندرك ذلك التشكل بسبب نفي النفس الى زاوية الغياب. إننا لا نعرف شخوصنا، لا نعرف نفوسنا، لا نعرف كينونتنا في عمقها. وما نعتقد أننا نعرفه عن أنفسنا للدلالة على كليتنا الإنسانية في فرديتها، محض التباس. وهذا الالتباس يوقعنا في التناقض معنا، في التضاد، وفي ما نسميه الازدواجية بمفهوم عام. إن تجسداتنا الخارجية لا تشي دائماً بدواخلنا، إذ تطغي ضجة المقولات الجمعية التي تبرمجنا منذ الطفولة وفق ما تريد، وتصيرنا وفق ما لا نريد على الأغلب، في أعمق أرواحنا ورغباتنا وأحلامنا، بل فيما تؤهله لنا الطبيعة كي نكون. إننا محملون بالعقد والكبوتات، بينما نعتقد منذ الصباح الى المساء أننا أسوياء! في التأمل ينشط العقل وتنهض طاقاته الخلاقة المبدعة، لصنع تبدلاتنا الشخصية. ومتغيرات حياتنا الفردية. الفلاسفة والمبدعون وحدهم يدركون أسرار التأمل واشتراطاته، أكثر منا نحن عامة الناس.. إذ ما من فكرة أو فلسفة أو إبداع يترسخ ويتسرمد في السيرورة البشرية، دون فعل التأمل الخلاق. والتأمل ليس فعل قطيعة مع الواقع وهو ليس السكونية والكسل ونفض اليد من العمل المنتج كما تردد مقولات الجموع، بل إنه فعل لازم لتجميع القوى الداخلية والتحفز للانطلاق نحو فضاءات أكثر عمقا واتساعا وعلوا! hamdahkhamis@yahoo.com