أتاني مواطن غاضب، فعذرته في الظروف المالية الدولية الصعبة، وفي ظل تدهور البورصات المالية، حسبته منهم، فقلت له: هون عليك، أزمة وتعدي، فقال: لا·· أريد أن أفهم، فاعتبرت السؤال فلسفياً، فقلت له: غيرك·· قبلك، تعب، وبحث، وتقلّب، سقراط قيد إلى الإعدام، وديوجينيس حمل قنديلاً في وضح النهار، وتوليستوي تنازل عن إقطاعاته للفلاحين الفقراء، وفلاسفة كثر ذهبوا ضحية الفهم، والبحث عن الحقيقة، قال: لا·· أريد أن أفهم بعض المسائل المحددة، الأزمة المالية العالمية، سببها، ومسببها، ولعبة الغولف، أسسها وطرق لعبها، والفورمولا، قواعدها وشروطها، قلت له: بس!! فقال : أيوه·· هل هناك مشكلة؟ فرددت عليه: لكن قبل ذلك ما هي مهنتك، وماذا تعمل؟ قال: موظف''أي تي'' قلت: طبعاً·· وتريد أن تفهم أموراً لا تفرقة فيها بين السياسة والمال والسلطة، وتريد أن تعرف عن لعبة الأغنياء والكبار، ومتع الأثرياء، وحلم الفقراء الصغار، هذه جدلية الحياة والإنسان والصراع والمعرفة، ولو حاولت أن أبسطها، فلن أقدر، لأنها تريد فهماً· أسمع·· أنا كنت قبلك ''إي· تي'' قبل أن يولد مصطلح''أي· تي'' وتعبت حتى أفهم، لكنني ما زلت أجهل ما سألتني عنه من الأمور الثلاثة، قال: يقولون عنك مثقفاً، وتمتهن الصحافة، ولا تعرف، فقلت له: دعني أسألك بعض الأسئلة، هل جربت البندرة وأكلها: قال: ماذا؟ قلت: الـ ''كانتين''، العدس، والتونة والهندال غير الناضي، وشاي الحليب في الكوب البلاستيكي، وخبزة تطويها لوقت العازة، وتعب أن تحصل على مائة روبية في الشهر، هل جربت أن تنتقل بـ''بيت فورت'' يخضّ كبدك من العين إلى أبوظبي كل أسبوع للتتعلم، هل عرفت رطوبة أبوظبي في السبعين، والنوم تحت مروحة في ''بركس'' عسكري، قال ماذا تقول؟ قلت: هل عرفت النهوض مبكراً قبل الفجر، ترتدي هاف البحرية الأزرق لتتهندم، وتركض كيلومتراً، وتتدرب على المشية العسكرية وانضباطها، وتفكيك السلاح، ويكون كل أربعاء عليك'' انسباكشن''، وتلمع الحذاء الأسود، والبطة العسكرية النحاس، وشعار العسكر، قال متى كان هذا؟ وفي أي وقت؟ قلت: في زمن غير بعيد، يوم كان الحصى رطباً، والبَهم تطلب المرعى والمغنم· عرفت الآن معنى الـ'' إي· تي''؟ يعني تلميذاً متدرباً، لكنك لن تعرف معنى''الهفسن والبكشن'' والبطانية العسكرية الصوف الرصاصية والصندوق المعدن، هل جربت مرة النوم في معسكر آل نهيان وقت القيظ، وعز البرد في ديسمبر؟ هل جربت أكل الفاصوليا المعلبة، ورغيف خبز، وحلوى عمانية على الكورنيش في زمن الفاقة، ورمضان المفطر؟ هل حتت أهدابك في قراءات تركض خلف حروفها من مدينة إلى أخرى من مدن الله، هل حفت قدماك وأنت تذرع البلدان وراء لذة المعرفة وطعمها الفردوسي، هل كانت الابتدائية شهادة عامة ، والاعدادية شهادة عامة، والثانوية شهادة عامة، هل تعاقبت عليك الكندورة العربية وقلبتها والتي كانت تتجدد بين عيد الأضحى وعيد الفطر لكي لا تقدم، هل عرفت الضرب على مشاهدة السينما في برد الصباح بخيزرانة لا ترحم، هل قرأت دروسك على مصباح الشارع في الليل الأبهم؟ وتقول: أريد أن أفهم!