الاقتراب من الأشياء لا يعني التعرف على حقيقتها الأصلية. ذلك لان الوعي بالجوهر يحتاج إلى دراية ببواطن الأمور وخبرة في سبر أغوارها العميقة. وشتان بين أن ترى الصورة وترى انعكاسها. فالثعبان مثلا قد يبدو في نظر الجبناء شرا متطايرا ينبغي بتره واستئصال جذوره من مكامنها، لكنه في نظر الحكيم يعد كنزا ثمينا لاستخلاص الحكمة والدواء. وبينما قد يرسم البعض صورة الأفعى دلالة على الغدر، فإن آخرين على مدى قرون اعتبروها شعارا للحكمة والسمو، كما هي في رسومات الفراعنة، حيث تمثل الأفعى ما يشبه التاج على رؤوس علية القوم وعنوانا للفخر العظيم. كذلك قد يسقط المتوهمون في شرك رؤية الظلال الخارجية وتصديقها بأنها الحقيقة، هذا ما يحدث عندما يدخل اثنان إلى السينما فيصدق أحدهم أن الصور المتتابعة على الشاشة هي حقيقية، ولكن بعد نهاية الفيلم تزول تلك الحقيقة المؤقتة ولا يتبقى منها سوى جدار أبيض وشاشة بيضاء فارغة. أما الشخص الثاني فهو يدرك أن الظلال مجرد أشباه لا متون لها ولا يمكن لمسها أو مصافحتها، وبالتالي ينبغي النظر إليها باعتبارها دلالات للحقيقة الأصلية المخفية والمستترة وراء انعكاساتها وعلاماتها وإشاراتها. هذا الفهم للبعد الآخر المخفي للحقيقة هو السند الذي تعتمد عليه الأمم المتحضرة في النهوض بفكر شعوبها، فالقراءة العادية قد لا تفضي إلى شيء، لكن قراءة ما بين السطور قد تقود إلى فهم أعمق بما يقال، والنقد في إحدى وظائفه الكبرى هو قراءة البواطن العميقة لما هو مكتوب وتحليل قيم الدلالات في النصوص العظيمة وفهم إشارات المعنى وارتكازات الرمز فيها. ولأن الحقيقة عصية على الانكشاف، لا يمكن التعبير عنها بلغة سطحية، لذلك يلجأ الفلاسفة والحكماء والشعراء إلى التعبير بلغة مركبة ومتداخلة في عناصرها التجريدية والمحسوسة، حيث يختلط الواقع بالخيال. وما الخيال سوى انعكاس آخر لحقيقة ما. سبر الأغوار عن طريق قراءة الرموز والإشارات يعني التعرف على الأبعاد الأخرى للوجود، منها البعد اللامرئي من حياتنا، حيث تتحرك المعاني في سياقات لا ندركها وتشكل وعينا الباطني وردود أفعالنا المرتجلة وفهمنا المحسوس بالحياة. أما وعينا المجرد فيتشكل عبر تراكم القيم والقناعات التي تصبح جاهزة ونذهب لنمارسها على السليقة وكأنها جزء من تكويننا الأول من غير أن نتفحص جذرها هل كان حقيقيا أم هو انعكاس سطحي لها. ابتعدي ايتها الظلال الطويلة كي أنام الليل كله ظل إلا وجه حبيبتي حين تبسمت فتورمت وجنة الوجود وأشرقت شمس صبحه لتطهر وعي القلوب كلها بالحب.. عادل خزام akhozam@yahoo.com