في أيام الشباب، كنت أقرأ بقدر ما كنت أشتري من كتب، وكان ما أتلقاه من كتب على سبيل الإهداء، بالغ الندرة، يقتصر على دائرة الأصدقاء المقربين، من الدارسين والمبدعين، وشيئا فشيئا، ومع الوقت، وتعدد الإنجازات، والمنابر التي أكتب فيها، اتسعت دائرة الأصدقاء والقراء، وتزايدت جسور العلاقات الإنسانية، فاتسعت دوائر الإهداء وبرغم أني قارئ نهم، لا أحب في حياتي سوى القراءة الممتعة فكريا وجماليا، أجد نفسي اليوم، خصوصا بعد أن جاوزت الخامسة والستين من عمري، عاجزا عن ملاحقة سيل الكتب التي تصلني، فقد أصبحت مقصدا لكتّاب أكثر مما أتصور على امتداد الوطن العربي، خصوصا بعد أن اتسعت الصداقة مع الأدباء والكتّاب، ودخلت في مرحلة الصداقات الحميمة وها أنذا أجد نفسي في موقف لا أحسد عليه، تتراكم الكتب على مكتبي، منتظرة القراءة، وما إن أبدأ في واحد منها، حتى يحل محلها عشرات غيره، من امتداد الأقطار العربية. وأذكر أنني عندما أصدرت كتابي عن “زمن الرواية” كان عدد الروايات التي أعرفها قليلا بالنسبة إلى الطوفان الروائي الذي نحن فيه وها نحن، الآن، نلهث في ملاحقة الإبداع الروائي الذي أصبح الفتى المدلل فعلا بين صنوف الإبداع الأدبي. ومن الطريف أنه نقل عدوى انتشاره إلى أنواع الإبداع المشاركة له في مجال السرد. وقد سبق أن قلت إن السرد القصصي أشبه بالمتصل الذي يتعارض طرفاه في المدى نفسه، فإذا تكاثف السرد وازداد عمقا في اللحظة الزمنية التي يرصدها، وأكسبته الكثافة نوعا من الشعرية، فنحن في المدى السردي للقصة القصيرة، أما إذا امتدت اللحظة الزمنية وتحولت إلى لحظات، واستطال الأفق السردي وتعددت مستوياته، وتكاثرت شخصياته، فنحن في مجال الرواية، أما إذا تعامد هذا المتصل على وسائط تقنية غير أدبية، كما يحدث في السينما والتليفزيون، فنكون في حضرة المسلسل التليفزيوني الذي هو نوع من القص الروائي في التحليل الأخير، ولذلك قد يطول وتتعد أجزاؤه، كما في خماسية “ليالي الحلمية” التى أكملها المبدع أسامة أنور عكاشة، وهو الأمر الذي يحدث في الفيلم الروائى الذي تتعدد أجزاؤه، أو مسمياته في حالة نجاحه، كما حدث في سلسلة “إسماعيل ياسين في الجيش، والبوليس، والبحرية إلخ..”. وهكذا أصبح “زمن الرواية” زمنا متعددا، مجازيا، يدل على أزمنة سردية عديدة والنتيجة ليست طوفان الروايات الجديدة فقط، وإنما شقيقتها الصغرى مجموعات القصص القصيرة، وازداد المشهد تعقدا واتساعا عندما اكتملت الخريطة الجغرافية للرواية، ودخلت كل الأقطار العربية بلا استثناء في إبداعها والنتيجة صفوف الكتب التي تتراص على مكتبي، ومطلوب مني ملاحقتها، إلى أن أصابني اليأس من قدرة المتابعة الكاملة، ولكني أعزي نفسي قائلا: لا تجزع فإن جيلك الذي جاوز الستين لم يعد وحده، فهناك أجيال جديدة صاعدة، يفترض أن تحمل هي العبء عنا، نحن الذين اشتعل رأسنا شيبا، وما يدعو للتفاؤل حقا أننا نرى ونقرأ لهم ما يبعث على الاطمئنان والتفاؤل، فبعضهم يحقق القاعدة الأدونيسية “بدءوا من هناك”، فابتدئ من هنا.