كان الأستاذ الجامعي الدكتور (أ) صريحا جدا. قال إنه يريد أن يهاجر من بلاده، ليس لأسباب سياسية أو اقتصادية، ولكنه يرغب في أن يستمتع باحتساء شرابه. في كنف مجتمع كهذا، تصبح المتع الفردية الصغيرة، أو الحقيرة، سببا كافيا للسعي نحو الحرية. لكن الدكتورة آذر نفيسي أستاذة الأدب الإنجليزي السابقة في جامعتي طهران والعلاّمة الطباطبائي، والأستاذة الزائرة الحالية في جامعة جون هوبكنز الأميركية، لا تعتد كثيرا بالأسباب الفردية. ففي كتابها المهم “أن تقرأ لوليتا في طهران” ترسم صورة جماعية عن حال القهر السياسي والديني والاجتماعي في بلادها. عكفت في كتابها، الذي وصف بأنه عدة كتب في كتاب واحد، على تضفير الحكايات الفردية في سياق قصة الوطن خلال الخمس عشرة سنة الأولى من حكم الملالي. فجاء الكتاب وثيقة شبيهة بتلك الوثائق الروائية أو التسجيلية عن الأنظمة الشمولية، حيث يتم تطويع الفرد إلى حدود الإلغاء في سبيل المجموع، ويصبح المجتمع أداة من أدوات الدولة والحزب الحاكم. قرأنا لألكسندر سولجنستين إدانات روائية للعهد السوفييتي، في الوقت الذي كانت فيه الدعاية العقائدية تملأ الجدران بذلك الملصق الضخم لأسرة من أب وأم وطفلين يتراقص الفرح في عيونهم تحت عنوان فاقع “وطن حر وشعب سعيد”. ومثل ذلك فعلت ثورة (ماو) الثقافية في الصين، مع فارق إن الملصق اكتفى بطفل وحيد. وحينما انطفأ وهج الثورة اكتشفنا إن أجهزة أمنها كان لها مليار مخبر. تكتب الزوجة تقريرا عن زوجها لأنها لاحظت تلكؤه في الخدمة الاجتماعية، ويكتب الزوج تقريرا عنها عندما يلمح سلوكا بورجوازيا في زينتها الليلية، وكذا يفعل الطفل مع والديه. رصدت نفيسي ممارسات من هذا النمط. كانت التقارير تكتب من الطلبة ضد أساتذتهم الذين يختارون تدريس مواد معادية للثورة. وعندما قررت هي تدريس طلبتها روايات مثل “لوليتا” للروسي فلاديمير نابوكوف، و”جاتسبي العظيم” لفيتزجيرالد، و”ديزي ميللر” لهنري جيمس، صنّفت تحت خانة الأعداء. ثم تصبح التقارير أشد مضاضة عندما يكون موضوعها خصلة شعر تفلّتت من تحت حجاب، أو ضحكة عالية بين زميلتين، أو اضطرار طالبة للهرولة لكي تلحق بموعد محاضرة. وعندما وجدت الأستاذة الجامعية نفسها مضطرة للتخلي عن مهنتها، قررت بناء وطن بديل، متخيّل، في حدود ما تستطيعه. اختارت مجموعة محدودة من طالباتها المجدّات لكي تدرّسهن في جلسة بيتية أسبوعية. هنا سوف تصبح القصص الصغيرة، معيارا للحكم العام. تصبح التجارب الفردية بتفاصيلها المؤلمة، أو التافهة، هي الرافعة التي ستدفع الجميع، للبحث عن خلاص.. هو في نهاية المطاف خلاص فردي، حتى وإن غلّفته آذر نفيسي بعبارتها المتوجعة: “لقد غادرت إيران، لكن إيران لم تغادرني”. بدت المؤلفة في كتابها وكأنها تندب إيران في عهديها: ما قبل الثورة وما بعدها. اكتفت، وهي ابنة محافظ طهران وأول عضوة في البرلمان في عهد الشاه، بنقل شذرات مشرقة عن بلادها. الحدائق الجميلة والشوارع الراقية. تغاضت عن المظالم السياسية والاجتماعية والطائفية التي أدت إلى قيام الثورة. تلك المظالم نفسها التي عاشتها بعد الثورة، وسجلتها بحساسية عالية. تقلّد الأنظمة الشمولية في اندفاعها، ما يفعله المروّضون مع الحصان الجامح عندما يحصرون مجال رؤيته، لكي يسير في الطريق الذي يريدونه.. دون أن تهتم بهلاك المروّضين، ونفوق الحصان، وضياع معالم الطريق، وحينما يأتي بعد حين من يحكي الحكاية، تصبح مجرد حسرات... adelk58@hotmail.com