التوحد بالذات مطلب عسير في واقع تحكمه ثقافة لا تقر بالحرية الفردية ولا بتوحد الفرد بذاته، ولا بتفرد الذات وانفرادها بذاتها. ولا برغبته في الاعتزال عما حوله، فالعزلة تعني في ثقافتنا مقاطعة للمجتمع، وهذه المقاطعة تضمر في باطنها النفور والكراهية من جهة، والانانية التي تضمر الاعلاء من قيمة الفرد لذاته على الاخرين. وفي تعبيرنا الدارج يقال “متكبر” ايضا ثمة مفهوم آخر وصفة تطلق في الخفاء والعلن على من يعتزل ويتوحد بذاته: مختل عقليا أو نفسيا! هكذا علينا ان نحيا ونمضي في طرقات حياتنا منذ الولادة حتى الموت مسوَّرون بالجموع بدءا من العائلة الى المدرسة الى الوظيفة الى المجتمع. لكن لماذا يحتاج الانسان احيانا كثيرة الى التفرد بذاته، الى التوحد، الى العزلة؟ هل العزلة نعمة أم وحشة، هل يشعر المتوحد بالوحشة حين يعتزل الضجة والآخرين؟ هكذا يعتقد الطيبون من الناس، فإذا رأوا انسانا وحيدا في بيته او في غرفته اعتقدوا انه يستشعر الوحشة او انه حزين وعليهم واجب مؤانسته والتخفيف من وحشته! في صباي حين كنت ارغب في التوحد بكتاب اقرؤه او كتابة اتوق تدوينها، انتظر نوم الجميع في البيت الصاخب منذ الصباح الباكر حتى منتصف الليل، لأقفل غرفتي وابدأ في الكتابة أو القراءة. لكن فجأة تدخل الوالدة مقتحمة وحدتي وتسأل فيما يشبه الخوف أو الاستنكار “ليش جالسة لوحدك؟ هل انت متضايقة او حزينة ؟” لحظتها اضع القلم على الورق الى اجل لا اعرفه، أو أغلق الكتاب بحسرة ومضض مشحون بغضب يفري روحي، واحاول اقناعها بأني بخير ولست مستوحشة. فتهدأ لكنها لا تغادر الغرفة وتقول: “طيب بنتي اكتبي وانا سأجلس بقربك لموانستك” وتبدأ بالكلام واستعراض احداث اليوم وما قيل ويقال. وحين اطلب منها ان تذهب لتنام وتستريح ترفض وتقول “لا بنتي، إذا بقيت وحدك يدخل رأسك الشيطان”. لذا كنت اشعر باليأس واتظاهر بأنني اريد ان انام. وأنا ادرك الآن لماذا عشت أكثر سنوات عمري متشردة بحثا عن العزلة والتوحد بالذات. وهكذا ايضا فهمت أن الاعتقاد السائد بدخول الشيطان الى رأس المتوحد والمعتزل يعني قمع قدرة الخيال من الانطلاق، وقدرة العقل من التحليل والتفكير والتأمل والتأويل. وها نحن نعرف الى اليوم أن الابداع بكل تجلياته شرطه التوحد والعزلة. وما من مبدع يمكنه ان يطلق لخياله حرية الابتكار والكشف والتجريب حين هو مسور ابدا بضجة الجموع. وسيّر الفلاسفة والمفكرين والمبدعين على مر العصور تؤكد هذه الحقيقة. وما لا تعرفه أمي ولا أغلب الناس أن للوحدة نعمة الصمت وترف الانس بالنفس وللعزلة بذخ الخيال وانطلاقه الى ما وراء المرئي والمدرك، وللهدوء حرير السكون. فأي ألق يبرق في تنفس العزلة، وأي نهوض يتأهب وخيال يجنح، وأي سعة تمتد أمام البصيرة نحو المطلق واللانهائي. واذا ما استشعر الانسان الوحشة حين يكون وحده، فإنه ليس وحده بل هو مسكون حتى خلاياه بالآخرين!! حمدة خميس hamdahkhamis@yahoo.com