البعض مثل الرحى التي تطحن عظامها، فتسمع جعجعة ولا ترى طحيناً.. كلام في الهواء الطلق يذهب جفاء، يتناثر غباره فيصيبك بالاختناق، ولا انعتاق غير الصد والإشاحة وجوماً.. البعض ينسى أن للصمت قلائد من ذهب، ووسائد من ريش النعام، تجعل صاحبها متأملاً متبصراً متفكراً، يلتقط ذرات الفكرة من عناقيد الحياة بكل بسالة، ويستطيع أن يفهم وأن يُفهم بيسر بلا عسر.. فالكلام المنحدر من علٍ أشبه بالشلال المائي الذي يجرف معه الطين والحثالة، وبقايا كائنات ميتة، تُسمم البدن، وتُعكر صفو الروح. في وضوح النهار أو عتمة الليل البهيم، حدابون، كذابون، يلفون خيوط الثرثرة بمهارة المحتالين، يتكلمون كثيراً، يحيكون وينسجون القصص الخيالية، وبعد حين من الزمن لا تجد معنى لما قيل، ولا تمسك بخيط من الخيوط، فتتيقن أن ما تم إلقاؤه من خطب، ما هي إلا نقيق أو نهيق أصم الآذان، ولم يغرِ العقل بما يليق.. يتكلمون عن كل قضايا الدنيا، ويحلون عقد الكون في برهة، وينتقلون من موضوع إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى، ولكن لا جدوى لكل ما قيل لأنه مجرد أصوات مفرقعات، تدوي في الأذن، ولا تصيب حقيقة.. أعرف واحداً من إياهم، يُفتي في جميع ما يشغل الناس، من مشاكل، فهو يفهم في السياسة، كما يفعل في الاقتصاد، يفتي في الرياضة، كما أنه يدلي بدلوه في الفن، يعرف الراقصات كما يعرف أعلام الفكر والسياسة، وفي كل حديث يحضره يكتب تحت اسمه مفكر وباحث.. والحقيقة أن كلمة مفكر هذه تغيظني كثيراً، لأنه إذا كان هذا الشخص مفكراً، أو أنه استطاع أن يحتكر الفكر لنفسه دون سواه من بني البشر، الذين يقال إنهم حيوانات عاقلة، فإن على علماء البيولوجيا، والسوسيولوجيا، والانثروبولوجيا، أن يعيدوا حساباتهم، ويراجعوا بحوثهم، لأن هناك بشراً بلا فكر أي أنهم من صنف مختلف عن هذا المفكر الجهبذ.. فلذلك، يحق له أن ينطلق وأن يتحدث وأن يتشدق، وأن يتصدق على السامعين بما حباه الله من موسوعية لا مثيل لها، ومن قدرات هائلة قلما توجد عند سائر بني آدم. هذا المفكر الفذ، يتكلم في كل شيء ويرعد ويزبد، وما على السامع إلا أن يهز رأسه، منحنياً، منثنياً، خاسفاً، ضارعاً، مُنصاعاً، لما يتفضل به المفكر لأنه مفكر ولأنه حالة نادرة في حياة البشر، ولأنه يحق له أن يطرق أبواب المعرفة كيفما شاء ومتى شاء، ومتى ما قال لابد أن يُصدق، لأنه لا ينطق إلا عن فراسة شاملة كاملة، تعم أرجاء العلوم الدنيوية والدينية أيضاً.. وحتى إن لم تفهم ما يقول، فعليك أن تقول له “صح لسانك”، لأن لسانه صحيح وفصيح، ورجيح، ومليح، لا يحتاج إلى مجادلة.. فهذا الكائن الخرافي لا يعتقد بالصمت، ولا يعتنق، ولا يقتنع، لأن في قاموسه المحيطي أن الصمت دليل جهالة.. وهو من معدن الفضة وليس الذهب. marafea@emi.ae