سمات شهر يفد بعد عناء متصل بمحبة الانتظار ووعود السماء بأن رمضان آت يمسد وجوه الأبواب الموصدة بعظمته، فتنفتح وتستيقظ منازل الرحمة أمام القلوب النابضة بالطاعة والمحبة والخشوع، وآيات من صور قرآنية يدنو رحيقها من دورة الدم ليرتشف الجسد تلاوة دفء الحياة، من ضياء الشهر الكريم تتمازج فيه الروح بأنفاس الصباحات والصلاة العبقة بالسحر وخبايا الصوم الذكية. الرائحة جلية الألفة، رضية المسافات، شقية الصبر.. للشهر طقوس في الذاكرة تسترسل منها نسمات الصيام والقيام، ولكل يوم قصصه يتنفس المرء منها قيما رمضانية، هي بساط السمو والرقي الى العلى الطاهر، فالكل يفرد جياده يبتغي الحسنات والفوز بها لا الانحسار عن شهر الخيرات ولذات قطافها يروي منها ويرتوي على مدار مسارات الفصول القادمة. حين تنحسر خيوط الشمس ويبدأ الليل يغشى المدينة لتبدو من السماء كأنها نوافذ من النور.. حينها يعلو أذان المغرب مرتفعا من الأرض يكسو الأجساد روحا تقبل إلى الأفطار بشغف الصائم. يتحلقون الصغار والكبار فرحين حول سفرة الطعام يرتجون لذة الأجر ونكهة الروح تختزل ذكريات ماضي الفرح وحكايات العبق.. إنها لحظة الفصل بين حالة الترقب وشراهة الإقبال يكسوها صفو الشهر وعادات ما قبله وبعده، وعيون تبحلق في فضاء ما لذ وشهى، والإفطار يبدأ، والأطباق تحلق بين أبواب البيوت التي تتبادل شهيتها في فضاء رمضاني جميل. الأطفال على صلة وثيقة بالشهر الكريم، تحملهم إيحاءات المحبة وعبق الوقار، فلا يخلو الأمر من طرائفهم.. تنعس عيونهم أمام شهية الطعام، تستند رؤسهم المرتخية أمام قبلة الصلاة، يحفظون مصاحفهم بغلاف مخملي، ويتلون تلاوة النور المشعة في نفوسهم، وعند الأسحار تحفظ عيونهم عقارب الإمساك.. تمتد سفرة الطعام من جديد، أحيانا تراهم يرسمون الضحك حين تتدلى رؤوسهم بالقدر بحثا عن قطعة دجاج.. أحدهم يخبئ قطعة «الهمبرجر» بعيدا عن الأعين، يظل مبتسما بعد إنهائها بتلذذ وشهية. إنها لحظة الفجر تزف حضورا غير معتاد لهم، يلامس شغف أفئدتهم ببهاء العطاء.. وجوههم وضاءة تنير الأفق بعبارات التسبيح باسم الواحد الأحد، هي في قلوبهم اختلاجات توحي بالفرح وبسمو الطهر. ترى الأمهات يعدن من أفق الصلاة، يقبلن على حكايات الطريق، فالمساجد بيوتهن المزخرفة بالإيمان تزهو بخطواتهن الرمضانية.. وجوههن وضاءة، وشفاههن تتمتم بذكر الرحمن.. نور الحجاب يفرد جباههن المتصلة برحيق المدى. زمان رمضان يعيد طقوسه ويشهد المرء ملامحه التي تضفي على الحياة رونقا جميلا.. في الماضي كان الشهر الكريم يفد والناس أحوج لبعضها، وأقرب للطقوس الرمضانية الجميلة، ففي الروح مودة عذبة، وفي النفس جمالية تعبق بالعطاء، قد تتلمس الفرحة على وجه الأطفال، قد ترى الابتسامة على وجوه الجيران، لكن مع اختلاجات الزمن تراجعت نفحات الشهر ومضى الزمن بملامحه الجميلة، وما تبقى منه كتابة جديدة من طقوس لابد أن تحضر ولابد أن تصفو بالنفس إلى مقامه الجميل.. إنه الشهر الكريم..