لا فرق بيننا وبين الحقائب، هي تسافر لتحمل امتعتنا وما يلزمه ملازمتنا في البعد عن المألوف، ونحن نحمل ذكريات قديمة وأخرى نسجلها في كل خطوة نخطوها. هي مثلنا تُـعَلقُ على جدرانها ملصقات من كل محطة تَمُرُ بها وتتسخ بالمطر والوحل وتحمل خدوشاً تركها عُمالٌ ارهقتهم حقائب البشر وتنقلاتهم اللامتناهية. وكالحقائب نُـرَحِلُ ذاكرتنا عبر صفحات الزمان والمكان ونعرض أنفُسَنَا الواعية والأخرى لمواقف مختلفة و كلنا أملٌ وتفاؤل من انها ستكتسب صوراً جديدة تعيد هيكلة محتواها. وعندما ضحكت آخر مرة شعرت بأني أمزح مع ذاكرتي لعلها تعود إلى قديم جميل فأذكر والدتي تقول: “يوم بينحط جدامك الزين والشين، سوّي الزين ترى الشين يشين راعيه”. لم أكن مقتنعة جداً بهذه الحكم الأفلاطونية فلقد كان “المْطّرق أو المكشة” اختيارها المفضل أحياناً، ففشلت هذه الحكمة من الارتقاء بمنطقي. ثم سمعتها تقول لنا دائماً: “يوم بينشدكم حد عن شيء قولوا ما ندري ما شفنا و لاسمعنا” ورسبت هذه الحكمة ايضاً، فعندما سألتني “أبلة ثريا” عن جدول الضرب وقلت لها ما دري و ما شفته و”لاجد سمعت عنه بعد” شرحته على مدى أسابيع وحفظته جميع الطالبات، جاءت والدتي المدرسة وبعد أن استمعت لتذمر المدرسة من غبائي جاء ردها: “أعندك اياها، اضربيها ولا تخلين منها إلا عيونها”.. ولم تُكذب المدرسة شعاع الضوء الأخضر وتحولت جميع جداول الضرب إلى متنوعة بالمسطرة الصفراء أم الحديدة و المُـشِّر و تلاهما “قّب” يشبه مصطدام الهريس. لقد كانت والدتي مستمعة جيدة فتتابع حديث صديقاتها لتردد: “ما عليك منهم وش على السحاب من نبح الكلاب”؛ فهي بعيدة كل البعد عن القيل والقال ولا يهمها من تَطَلقَ، و تَعَلقَ و لا حتى من تأَلقَ. وعندما تقدمت لخطبة بنت الجيران جاء الرد “الغير مباشر” همساً: “هاذيل مب من مواخيذنا” فلم تردد ذلك المثل وانتقلت إلى آخر: “القانون لا يحم المغفلين” حتى لدغت من نفس الجحر مراراً فأصبحت تردد: “لا تعايرني وأعايرك الهم طايلني وطايلك”؛ فاستغربتُ لمصرنة والدتي في أيامها الأخيرة إلى أن فاجأتنا باستخدام “ياحبذا لو” و “لا مناص من ذلك” وعبارة “وهو كذلك”. وبعد سنينٍ عديدة فهمت دروساً كثيرة وسألت والدتي: لماذا الضرب؟ فردت: “شورايك؟ ما أستويتن حريم وتعرفن السنع؟ فرديت عليها: “وليش ترخصين المدرسة تضربنا ولماذا تخلي عيوننا بس؟ فردت: “العلم نور ولازم تخليلكم عيونكم والا شقايل بتشوفون وين انتوا سايرين؟”. وعن المصرنة قالت: “الكثرة تغلب الشجاعة”، وعن المفردات الفصيحة قالت: “نحن كل ما حاولنا نتثقف شويه يبتولنا كمٍ خبر... انتوا بس خذوا وتعلموا...هذا غيض من فيض”. اليوم تسكن امي قبراً أدعو الله أن يكون منيراً بما نورت به دنياي ووجودي. والمعجزة هنا أيها السادة، ان من عَلمَونا تعلموا من أميين سبقوهم ولكن بأيديهم أسرار الكون ومفاتيح فرج تبهج أيامنا فنضحك عندما ندرك دروساً لم نعيها ولا نعيها حتى عندما نحمل شهادات “الدكتوراه”!!. ترى ما الذي سيكون في حقائب ذاكرة عيال النيدو؟ bilkhair@hotmail.com