أوحت لي تلك المذيعة المتبرجة بصيغة مبالغ فيها بتلك الضحالة الإعلامية، وحب الظهور الكاذب، وأشعرتني أنها لا تحبّني مطلقاً، وأنني عبء عليها في تلك الأمسية، وظهر ذلك جليّاً حينما خابرت المخرج بالهاتف الداخلي، متسائلة: «هو دا الشاب من أيتها بلد خليجي بالزبط»، فأضمرتها في نفسي، وقلت: «الحمد لله أنها لم تقل من أيتها داهية..»، فجأة علا صراخ في الاستوديو بين المخرج وطاقم التصوير والإضاءة، وثلاثة آخرين لا أعرف لم هم موجودون في الأستوديو أصلاً، وكان يمكن للمشكلة أن تحل في دقائق، ومن دون صريخ ولا توتر، جلست كناسك بوذي أتنفس الصمت، منتظراً «كيو.. البداية»، بدأت المذيعة بتحية الجمهور بتلك الابتسامة السيراميكية، وفجأة سهت قليلاً، وكأنها تذكرت شيئاً كان يجب أن تضعه في ثلاجة البيت، ونسيته، استدركت، مرحبة بي، قائلة: «النهارده معانا ضيف من الإمارات، ممكن يا أفندم تقدم نفسك للجمهور، وليه اخترت الكتابة بالذات، برغم أنها من أصعب الفنون»؟، فأسقط في يدي، اعتدلت، وأزحت عن وجهي قناع ذلك المتنسك البوذي، بادئاً دون قول في الحقيقة، منتظرة شكرها، وشكر القناة والقائمين عليها، فخاب رجاؤها حين سمعت: «تدرين سيدتي، أن الكتابة هي التي اختارتني، وهي وحدها القادرة أن تقدمني للناس، بعيداً عن خجل الذات أو تواضعها، والتي تقبل أحياناً بأن تنقص من حقك راضياً، سيدتي.. أن تنشأ بين رمال، كأنها الذهب المذاب، وزرع متشح بالخضرة والارتواء، وجبل يحرس مدينتك منذ الأبد، وبحر يجعل العالم قريباً، فالمسألة برمتها تختلف، وتختلف كثيراً حين يكون البيت من طين، وتعرف يد الطفل بداية اللعب بالصلصال، وأسرار التكوين، حين يكون هناك ماء جار، ويجاور النخيل، فثمة حكايات وأسرار تبوح به أغنية الأفلاج، حين تسمع تسابيح الجد في الفجر تسبق خطواته، وتستصيخ السمع لدقات هاون قهوة الجارة أو صرير حجر الرحى تديره الأم الصابرة، تلك المرأة التي لا تتعب من الحب أبداً...»، صرخت المذيعة: «ستوب.. ستوب لا.. لا ما اتفقناش على كدا، حعيد تاني المقدمة، إيه دا، لأ..». تذكرت حينها ذلك المذيع الجميل لنشرة الأحوال الجوية في التلفزيون الفرنسي، لا يكتفي بالظهور أمام مؤشرات درجات الحرارة، والخرائط وأسماء الأماكن، كان يحضّر كل يوم كيف سيطل على مشاهدي التلفزيون بحلة جديدة، وطريقة مبتكرة، تدخل الفرح والتفاؤل، وتنفض الكسل، ولو كانت السماء مكفهرة، وملبدة بالغيوم، ومؤشر درجة الحرارة تحت الصفر، كان ذلك المذيع النجم، يركب دراجته النارية، ويعتمر قبعته، ويذهب لأماكن تراكم الثلوج أو مكان الأعاصير أو حدوث الفيضان، يمكن أن يلعب مع الأطفال تحت المطر أو يتزلج على الثلج أو يكون على الشاطئ في الصيف أو في وسط شارع مكتظ بالسيارات نتيجة رداءة الطقس، كان يقدم ربع ساعة من التشويق والمعلومة واحترام المشاهدين، والارتقاء بمستواهم ولمستواهم، كان باختصار لا يستخف بالظهور الإعلامي، ويحترم نفسه كثيراً!