لو لم تغلب الغواية آدم ويأكل من التفاحة المحرمة، لربما كان جنس البشر يعيش الآن في ما وراء الخيال، ولم تتح له، بالتالي، فرصة إعمار الأرض. لو لم تسقط تلك التفاحة السرمدية فوق رأس اسحق نيوتن، لظلت حركة الأجسام والأجرام هائمة في مجاهل فيزياء الطبيعة وفكر البشر. لو لم تظهر، في خواتيم القرن العشرين، تلك التفاحة المقضومة، لظل العالم أسير تكنولوجيا نخبة النخبة.. بتفاحته الشهيرة، استطاع ستيف جوبز أن يضع الطفرة التكنولوجية الهائلة التي ابتكر وسائطها، في أيدي العامة، وأن يسهّل استخدامها، وأن يجعل منها ضرورة، في تصاريف الحياة العلمية، والمعرفية، والاتصالية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. لم يقف الأمر عند حدود الكمبيوتر الشخصي، واستخداماته المتنوعة بذاته أو عبر الشبكة العنكبوتية، بل هناك أجيال من المبتكرات التي وضعها ستيف جوبز بين أيدي الناس: iPad, iPhone, iPod, iMac, iTunes. أرسى هذا العبقري، خطوة تمهيدية ومهمة لتحرير المنجز العلمي من الاحتكار الرأسمالي والإمبريالي. وبدقة أكثر، فإنه حرّر المنجز العلمي وليس العلم نفسه. ذلك إن رفع ذلك الاحتكار بالمطلق عن العلم، يحتاج إلى تغيير جذري في شبكة واسعة من تداخل الأنظمة والقوانين والمصالح الدولية. وبتوسع أكثر، يمكن القول إن ستيف جوبز، منح التكنولوجيا الجديدة شكلا ديمقراطيا جنينيا: غزيرة، سهلة، متجددة، ورخيصة نسبيا.. صحيح أن ستيف جوبز هو أحد أكبر المجددين في تاريخ الرأسمالية المعاصرة، لكن “المشاعية التكنولوجية” التي أنشأها ـ على الأقل لناحية الاستخدام ـ شكلت حاضنة لإرهاصات التحرر لدى شعوب كثيرة. ولعل مسار ما يسمى “الربيع العربي” واستفادة حركاته من ثورة الاتصالات الحديثة هو خير مثال على ذلك. بات العالم مع تفاحة “ماكنتوش” الشهيرة خادما لأنشطة إنسانية، كان يعتقد إنها فوق العلم، أو قبله.. فلطالما تصور منظّرون ونقّاد، أن المنتج الكتابي، على سبيل المثال، هو منتج مستقل بذاته، لا يحتاج من العلم أكثر من حبره وورقه. ظل بعض المبدعين، أوفياء للقلم، فيما كانت تكنولوجيا الترفيه تتسلل إلى عالم الموسيقى عن طريق “التنزيل” من الإنترنت، فتكاد تقضي على ثورة الأقراص المدمجة. وحصل الأمر نفسه مع صناعة السينما والفيديو. ثم شهدنا ثورة في صناعة أفلام التحريك (الأنيماشين). ولا شك أن ثلاثة أجيال حتى الآن تشكل وعيها عن طريق أفلام مثل Toy Story وFinding Nemo. أما في عالم الكتابة، فهذا الروائي البرازيلي الشهير باولو كويلهو، يعلن بشفافية كبيرة أنه يستمد أفكار رواياته، ويراجع بناءها، مع الملايين من متابعيه على مدونته الشخصية وصفحته على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”. إنها أول كتابة تفاعلية واسعة النطاق في التاريخ، أو على وجه أصح إنها ورشة إبداعية متكاملة الأركان، تجري في عالم افتراضي. تدين البشرية لحفنة من الرجال في منحها صورة الحياة المعاصرة: لوي باستور مكتشف اللقاحات، وتوماس أديسون مخترع الكهرباء، وغراهام بل مبتكر الهاتف، وألكسندر فلمنج مكتشف البنسلين، وغيرهم كثيرون من العلماء والمفكرين والفلاسفة، الذين كانوا جميعا مؤسسين كل في قطاع.. لكن ستيف جوبز، بتأسيساته وتطويراته، كان خارقا للقطاعية. كان خلاصة لتراكمات سيرته الشخصية العجيبة. طفل يتخلى عنه والده السوري لأسباب تتعلق بضغوط المجتمع الأميركي وارتباطه الوثيق بهويته الأصلية. بدايات رثة ضعضعها الفقر والتشوّه السلوكي والفوضى الفكرية. ثم تكتب الحكاية أحرفها الأولى كحلم رومانسي، فيصبح ستيف جوبز بطل أسطورته الخاصة.. وأساطير الآخرين. adelk58@hotmail.com