عرف الإنسان منذ أزمنة قديمة قدرته على الاختراع والاكتشاف، فاكتشف النار، والكتابة ثم اخترع الطباعة والورق والحاسب الآلي، وما بين النار والكمبيوتر اكتشف ملايين القوانين والاختراعات والنظريات والأجهزة التي لا حصر لها، ولا يزال مستمراً في ذلك، وهو عادة ما يخترع أساليب حياتية تعينه على أن يمضي الحياة والوقت بأقل قدر من المتاعب والألم والخسائر، على اعتبار أن الإنسان هو الكائن الأكثر خوفاً ورعباً أمام الألم والخسائر المختلفة، ولأنه هلوع وجزوع كما قال الله في القرآن فهو في بحث مستمر واختراع دائم واكتشاف لا ينتهي لكل ما من شأنه أن يجنبه الألم ويجلب له الأمان. في حياته يخاف الإنسان من الفراغ، ومن الوحدة، ومن إحساسه بعدم التقدير، وعدم الاهتمام بشخصه أو قدراته، كما يخاف من الإهمال والمرض وفقدان التركيز والذاكرة، إن أكثر من ينتابهم هذا الشعور بالخوف هم الأشخاص الذين لا يعملون، أو المتقاعدون عن العمل، أو كبار السن، ولقد لفت نظري أن معظم مدننا ومناطقنا وأسواقنا وحتى حدائقنا العامة وأحيائنا الشعبية تكاد تخلو هذه الأيام من كبار السن نساء ورجالاً، في حين أننا كنا نلمحهم دائماً في طفولتنا يملأون الأمكنة والأحياء. اتساءل كثيراً أين اختفى هؤلاء الكبار؟ هل صممت المدن للشباب فقط؟ هل بنيت المقاهي والنوادي والحدائق والشوارع والشواطئ والأسواق للصغار والمراهقين فقط؟ إذن ماذا يفعل الآباء والجدات والكبار؟ أين يذهبون وكيف يقضون أوقاتهم؟ الا يحق لهم الخروج في نزهات قصيرة خارج المنزل، إلى الحديقة والبحر والسوق ..؟ في أغلب مناطقنا الحديثة صممت الأمكنة لتتماشى مع روح الحداثة، ومدن الحداثة والعولمة والزجاج والموسيقى الصاخبة والمقاهي الأميركية ومطاعم الوجبات السريعة لا تعترف بالكبار، ولا تتعامل معهم، هذا هو منطق السوق والعولمة. لكن هناك منطقاً آخر غير منطق السوق يجب الالتفات إليه جيداً هو منطق الحقوق، فالحقوق للجميع، للأطفال والمراهقين والشباب والنساء والكبار، ومثلما يتمتع الشباب بمزايا وإمكانات المدينة الحديثة يفترض أن تكون هناك أمكنة ومساحات يتمتع فيها الكبار بهذه المزايا أيضاً ولكن ليس فقط في دور العجزة أو استراحات الشياب !! حين نزور مدن الغرب، نجدها تجمع بين التاريخ والحاضر، بين الحداثة والأصالة، بين الأمس واليوم والمستقبل، بين الكبار والصغار، وبطبيعة الحال فهي تعج بالشباب وبكبار السن، بل إن كبار السن أكثر عدداً من الشباب هناك، ولذلك فإن لهؤلاء الكبار أماكنهم وتسهيلاتهم وكل ما ييسر لهم التمتع بمدينتهم والعيش فيها بيسر وأمان، نلمح تلك التسهيلات في القطارات فلهم مقاعدهم الخاصة كما لهم أولوية الجلوس ولهم أسعارهم المخفضة، كذلك في حافلات النقل العام والشوارع والفنادق والحدائق والأسواق والمطاعم، انهم مواطنون من الدرجة الأولى وليسوا مجرد أسماء بانتظار الشطب من سجلات الأحياء. نحتاج الى قوانين وتشريعات في هذا الاتجاه، نحتاج إلى أمكنة كالنوادي في أماكن التجمعات السكنية مثلاً لهؤلاء الكبار، نحتاج الى أن نجهز الشارع ليس لعبور السيارات والمشاة الشباب فقط ولكن لمستخدمي الدراجات والزلاجات وكبار السن أيضاً ؟ أما على صعيد الخدمات الحيوية فلابد أن تتوافر مراكز صحية لرياضات كبار السن وعلاجات لأمراض الشيخوخة؟