مسارات جديدة في المشهد الليبي
تتوعد الإدارة الأميركية مجدداً بفرض عقوبات بحق معرقلي إجراء الانتخابات في ليبيا، بالتعاون مع الشركاء الدوليين والحلفاء الإقليميين ودعم خيار الشعب الليبي الذي اختار الانتخابات مع التأكيد على أنه قد حان الوقت لوجود حكومة ليبية موحدة تواجه كل التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها ليبيا. وعلى الرغم من هذا الموقف الأميركي، فإن مسار الأزمة الليبية يمضي في اتجاهات متعددة دون النظر في الهدف الرئيسي والمركزي، وهو الشروع في إجراء الانتخابات وقد تزامن مع ذلك إعادة فتح الحقول والموانئ النفطية، بعد إعلان تكتل الهلال النفطي موافقته على رفع الحصار المفروض على المنشآت النفطية.
وفي المقابل تجاهل عبد الحميد الدبيبة هذه التطورات بتركيزه على إجراء المجالس البلدية، والتشديد على ضرورة التقيد بمراحل استكمالها، لتأكيد الالتزام بالمسار الديمقراطي للحكومة، التي تعتمد خيار اللامركزية بإعطاء صلاحيات واسعة للبلديات، وهو ما تزامن مع تصريح مارك فرانش، ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بأن الانتخابات البلدية المقبلة مهمة لتعزيز شرعية المؤسسات المحلية.
وبعد إعلان رئيس حكومة الاستقرار فتحي باشاغا من مجلس النواب عن إطلاق حوار وطني، بمبادرة من الحكومة من أجل التواصل المباشر مع كافة الأطراف والوصول معًا إلى توافق وطني حقيقي ورد الفعل السلبي من الجانب الآخر نكون أمام مسار جديد قديم يتكرر في إطار سيناريو مفتوح للمشهد الليبي، والذي لا يتوقف عند مساحة الحوار المقترحة، خاصة مع استمرار التحركات العربية والإقليمية من جانب وتحرك الأمم المتحدة من جانب آخر حيث عاد الحديث النظري من كل الأطراف المعنية عربيا وإقليميا حول ضروريات ترسيخ مبدأ المشاركة الوطنية الواسعة في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها ليبيا.
وبرغم ذلك فإن الخيار العسكري ما زال وارداً بقوة بدليل تجديد عبد الحميد الدبيبة تعهده بالدفاع عن طرابلس حال مهاجمتها، وهو ما يعني أن الخيار العسكري ما زال مطروحاً في ظل كافة التطورات الجارية في المشهد خاصة أن رئيس الحكومة فتحي باشاغا يعتبر أي مدينة ليبية عاصمة على اعتبار أن طرابلس فيها مشاكل من خلال الميليشيات المسلحة الموجودة فيها واستمرار الجدال بشأن رفع حالة القوة القاهرة في ميناء الزويتينة واستئناف العمل مؤقتا كما عاد وبقوة تكرار الخطاب الاعلامي بأن حكومة باشاغا هي التي سوف تسهل لإجراء الانتخابات.
ومنذ انتخاب فتحي باشاغا رئيسا للحكومة بجانب عبد الحميد الدبيبة، لم تحقق ليبيا أي تقدم سياسي في أي مسار مقترح، وعدنا للدوران في حلقة مفرغة وبات التصعيد العسكري وارداً في ظل تعثر حدوث عملية توافق بين القوى السياسية، خاصة أن الطرفين على استعداد لخوض هذه المواجهة، إذ يدفع الدبيبة نحو توجيه الجهات العسكرية التابعة له للتعامل مع أزمة النفط، وهدد باللجوء إليها في صورة الاقتراب من المقار الحكومية، بينما يتجه باشاغا أيضا للتصعيد المقابل وذلك بعد تعثّر محاولاته للدخول إلى طرابلس وتسلمّ مهامه، وهو ما قد يدفعه إلى التخلي عن خياره السلمي، واللجوء إلى الخيار العسكري.
والمعني العام أننا نتحرك في فرعيات وليس عموميات ترتبط بما يجري بدليل اعتبار مدينة سرت مقراً مؤقتاً للمجلس الرئاسي، وحكومة تصريف الأعمال منتهية الولاية. وتزامنت هذه التطورات مع تفعيل اجتماع اللجنة المشتركة من مجلسي النواب والدولة بهدف بناء التوافق على مسار دستوري يمكن من إجراء الانتخابات الوطنية في فترة زمنية قصيرة وبجدول زمني واضح، مع العمل على إعادة تفكيك الميلشيات، أو دمجها في المؤسسات الأمنية أو المدنية، في ظل وعود بتحقيق هذه المطالب، كان آخرها ما صرح به الفريق أول محمد الحداد، رئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية بوضع خطة شاملة لتنظيم هذه الكيانات، برغم صعوبة تحقيق ذلك لأسباب كثيرة، أبرزها أن هذه المجموعات باتت تستثمر في الصراعات السياسية الراهنة، كما تتمتع بصلاحيات ونفوذ وتسليح واسع، مما يتطلب وجود سلطة ليبية منتخبة لردعها.
وفي المجمل، فإن مسار العملية السياسية في ليبيا ما يزال يتسم بعدم الوضوح مع تباين المواقف وتشعب التفاصيل في اتجاهات متعددة، وهو ما يؤكد على أنه لا بديل عن الحوار الليبي- الليبي، والعمل على تجنب الخلافات الراهنة مع التركيز على المسار الدستوري الذي يجري برعاية الأمم المتحدة بين لجنتي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، من أجل التوصل إلى قاعدة دستورية لإجراء العملية الانتخابية.
أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية والعلوم السياسية