مع دخول دونالد ترامب ولايته الثانية، باتت ملامح السياسة الخارجية الأميركية أكثر وضوحاً، إذ تتجه واشنطن إلى تقليل التدخلات الخارجية والتركيز على المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة. في هذا السياق، جاء اللقاء بين ترامب وزيلينسكي كإشارة واضحة إلى أن العلاقة بين أميركا وأوكرانيا لم تعد كما كانت، وأن الدعم الأميركي أصبح مشروطاً ومحسوباً بدقة.

هذا التحول لا يقتصر على أوكرانيا فقط، بل يحمل انعكاسات أوسع على أوروبا، والشرق الأوسط، والصراع الدولي على النفوذ.
اللقاء، الذي كان متوقعاً أن يعزز الدعم لكييف، تحول إلى مواجهة علنية. ترامب، المعروف بمواقفه غير المتوقعة، انتقد بشدة طريقة تعامل زيلينسكي مع الحرب، محذراً من أن تصعيد الصراع قد يؤدي إلى عواقب كارثية. كما أعلن تعليق صفقة معادن نادرة كانت أوكرانيا تعول عليها لدعم اقتصادها الحربي، مما أثار قلق المسؤولين الأوكرانيين والأوروبيين على حد سواء. زيلينسكي، الذي جاء إلى واشنطن بحثاً عن تطمينات، وجد نفسه أمام رئيس أميركي يريد إعادة تعريف العلاقة، وليس فقط استمرارها بالشكل التقليدي.
ما حدث في اللقاء لم يكن مجرد توتر دبلوماسي، بل إشارة إلى تحول جذري في الاستراتيجية الأميركية تجاه أوكرانيا وحلفائها. القادة الأوروبيون تابعوا اللقاء بقلق، خاصة في ألمانيا وفرنسا، حيث بدأ الحديث عن ضرورة زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي لتعويض أي انسحاب أميركي محتمل. أما بولندا ودول البلطيق، التي تعتمد بشكل أساسي على الردع الأميركي ضد روسيا، فوجدت نفسها في موقف دفاعي، محذرة من أن أي ضعف في الالتزام الأميركي سيصب في مصلحة موسكو.
في الشرق الأوسط، كان التأثير أكثر براغماتية. دول الخليج، تدرك أن تقليل اهتمام أميركا بأوكرانيا قد يعني تركيزاً أقل على الشرق الأوسط أيضاً. هذا يدفع هذه الدول إلى تعزيز استقلاليتها الاستراتيجية، سواء عبر توسيع الشراكات مع الصين وروسيا، أو عبر تكثيف دورها كوسطاء في النزاعات الدولية. مصر، من جهتها، تراقب بحذر أي تغير في الموقف الأميركي، فهي تدرك أن أي تحول جذري في السياسة الأميركية قد يؤثر على حجم الدعم العسكري والاقتصادي الذي تتلقاه.
لكن تأثير الولاية الثانية لترامب لا يقتصر فقط على أوروبا والشرق الأوسط. هناك تحولات أوسع في النظام العالمي بدأت تظهر ملامحها.

سياسة «أميركا أولًا»، التي يتبناها ترامب تتجه إلى تقليل التدخلات العسكرية وتقييد الدعم غير المشروط للحلفاء. هذا يفتح الباب أمام الصين وروسيا لتعزيز نفوذهما في مناطق كانت تقليدياً تحت النفوذ الأميركي. الصين قد تستفيد من هذا التحول عبر تعميق علاقاتها الاقتصادية مع دول مثل ألمانيا وفرنسا، بينما ستسعى روسيا إلى فرض واقع جديد في أوكرانيا وأوروبا الشرقية.
إسرائيل أيضاً تتابع هذه التطورات بحذر. إدارة ترامب، رغم كونها داعمة لتل أبيب، إلا أنها قد تقلل انخراطها المباشر في الشرق الأوسط، مما قد يضع عبئاً أكبر على إسرائيل في التعامل مع التهديدات الأمنية الإقليمية.

من جهة أخرى، تركيا، العضو في «الناتو»، تجد نفسها أمام فرصة ومأزق في آنٍ واحد: فرصة لتعزيز دورها كقوة إقليمية مستقلة، لكن مع تحديات في الحفاظ على علاقتها مع واشنطن وموسكو في آنٍ واحد.
هذا التحول الأميركي قد يعيد تشكيل العلاقات الدولية بشكل أعمق مما يبدو على السطح. أحد السيناريوهات المحتملة أن أوروبا ستضطر إلى إنشاء نظام دفاعي مستقل، مما قد يخلق قوة أوروبية عسكرية أكثر استقلالية.

أما في الشرق الأوسط، فقد يؤدي هذا التحول إلى زيادة المنافسة بين القوى الإقليمية، حيث تسعى كل دولة لتعزيز موقعها في ظل غياب مظلة أميركية واضحة.
اللقاء بين ترامب وزيلينسكي لم يكن مجرد اجتماع سياسي، بل كان لحظة فاصلة تكشف عن نظام عالمي جديد قيد التشكل. واشنطن لم تعد مستعدة للعب دور الحامي المطلق لحلفائها، والعالم بأسره يتأقلم مع هذا الواقع الجديد.

السؤال الأكبر الآن هو: هل سيتمكن الحلفاء، سواء في أوروبا أو الشرق الأوسط، من التكيف مع هذا التغير؟ أم أن هذا التحول سيخلق فراغاً جيوسياسياً تستغله قوى أخرى مثل روسيا والصين؟ الأيام القادمة ستكون حاسمة في تحديد المسار الجديد للنظام العالمي.
* لواء ركن طيار متقاعد