عندما يترأس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم مجلس الوزراء، لا تكون الاجتماعات مجرد استعراض للخطط، بل هي منصات لرسم ملامح مستقبل دولة اختارت أن تكون في قلب العالم، وأن تنافس في صدارة الأمم. وما حمله اجتماع مجلس الوزراء الأخير بقصر الوطن بأبوظبي، يكشف ملامح مرحلة جديدة، حاسمة، يقود فيها محمد بن راشد مشروعاً وطنياً شاملاً للانتقال بدولة الإمارات إلى مصاف الاقتصاديات الكبرى، خلال ست سنوات فقط.من يقرأ تفاصيل الاستراتيجية الوطنية للاستثمار التي تم اعتمادها، يدرك أننا أمام رؤية منهجية تسعى لمضاعفة تدفقات الاستثمارات الأجنبية، من 112 مليار درهم إلى 240 مليار درهم سنوياً بحلول 2031. هذا التوجه ليس مجرد رفع للأرقام، بل هو إعادة هندسة لمكانة الإمارات في خارطة الاستثمار العالمية، عبر تركيز دقيق على القطاعات الاستراتيجية: الصناعة، والخدمات اللوجستية، والخدمات المالية، والطاقة المتجددة، وتقنية المعلومات. تلك القطاعات ليست عشوائية، بل تستجيب لتحولات الاقتصاد العالمي، الذي يتجه نحو التكنولوجيا الخضراء، والاستقلالية الصناعية، وسلاسل الإمداد الذكية.
ما يميز هذه المرحلة أن القيادة الإماراتية لا تراهن فقط على استقطاب رؤوس الأموال، بل على بناء منظومة اقتصادية متكاملة. رفع مخزون الاستثمار الأجنبي من 800 مليار درهم إلى 2.2 تريليون درهم بحلول 2030، يعني دخول الدولة مرحلة جديدة من السيادة الاقتصادية، قائمة على تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط، وهو ما يحاكي تجارب الدول المتقدمة في الانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط.
وفي المقابل، تأتي الاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الرقمي كرافعة جديدة لدولة الإمارات في عالم يتجه نحو الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. المستهدف رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي من 9.7% إلى 19.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو تحدٍّ طموح، لكنه قابل للتحقيق، إذا ما استمرت المبادرات الحالية في تطوير البنية التحتية الرقمية، وجذب الشركات العالمية، وبناء كفاءات وطنية قادرة على قيادة هذا التحول.
من جانب آخر، فإن الشراكات الاقتصادية مع دول أفريقيا جنوب الصحراء، والتي شهدت نمواً بنسبة 87% في حجم التجارة، خلال خمس سنوات، تكشف عن وعي استراتيجي إماراتي بأهمية الانفتاح على أسواق جديدة، خارج الإطار التقليدي للشركاء التجاريين. الإمارات تعزز مكانتها كبوابة عالمية للتجارة، تربط الشرق بالغرب، وتفتح آفاقاً للتكامل مع الاقتصادات الناشئة في القارة الأفريقية، التي تمثل مستقبلاً واعداً في التجارة والاستثمار.
أما في المجال الصحي، فإقرار سياسة وطنية لمكافحة المخاطر الصحية، واللائحة التنفيذية للتبرع وزراعة الأعضاء، يعكس وعياً بأن الأمن الصحي بات جزءاً من الأمن القومي لأي دولة. التجربة العالمية مع الجوائح الصحية عززت من قناعة الدول المتقدمة بضرورة بناء أنظمة صحية مرنة، قادرة على الصمود والاستجابة، والإمارات تمضي في هذا المسار، ليس فقط لحماية مواطنيها، بل لترسيخ مكانتها مركزاً إقليمياً للرعاية الطبية المتقدمة.
وفي إطار البحث والتطوير، فإن إعادة تشكيل مجلس الإمارات للبحث والتطوير تحت رئاسة سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، رسالة واضحة أن المرحلة القادمة ستعتمد على المعرفة والابتكار كرافعة للتنمية. الدول الكبرى اليوم تتسابق في إنتاج المعرفة، وليس استهلاكها فقط، والإمارات تخطو بخطى واثقة نحو هذه المكانة، من خلال ربط السياسات البحثية بالأولويات الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
القرارات الاجتماعية التي تم إقرارها، خاصة ما يتعلق برفع موازنة الدعم الاجتماعي إلى 3.5 مليار درهم، وزيادة عدد المستفيدين من البرامج بنسبة 37%، تعكس التزاماً صريحاً بعدم ترك أحد خلف الركب. الإمارات تدرك أن العدالة الاجتماعية ليست ترفاً، بل أساس الاستقرار السياسي والاجتماعي، وبالتالي، فإن تحويل المستفيدين من برامج الدعم إلى مساهمين في الاقتصاد الوطني، هو جزء من رؤية محمد بن راشد لتمكين الإنسان قبل تمكين الاقتصاد.
وفي الوقت ذاته، فإن نظام العمل عن بُعد من خارج الدولة يعكس مرونة مذهلة في إدارة الموارد البشرية الحكومية، والانفتاح على الكفاءات العالمية، مع الحفاظ على الكفاءة والإنتاجية.
ختاماً، فإن اعتماد 28 اتفاقية دولية جديدة، تشمل شراكات اقتصادية مع ماليزيا ونيوزيلندا وكينيا، وتعاوناً أمنياً ولوجستياً مع دول أخرى، يؤكد أن الإمارات ماضية في ترسيخ مكانتها كدولة محورية، تعتمد على تنويع تحالفاتها، وتعزيز أمنها القومي عبر العلاقات الدولية الذكية.
السنوات الست القادمة، بحسب ما كشفه اجتماع مجلس الوزراء، هي سنوات صناعة التاريخ. الإمارات تدخل المرحلة الثانية من الاتحاد، متسلحة برؤية محمد بن راشد، قائد لا يخطط للمستقبل فقط، بل يصنعه.
*لواء ركن طيار متقاعد