شهِد الاقتصاد العالمي، في العقود الأخيرة، تحولات هيكلية أسهمت في إعادة تشكيل ملامحه الأساسية، ومنها بنية الإنتاج، والتجارة الدولية، وسوق العمل. وقد تمثل هذه التحولات نتاجاً للتطورات التكنولوجية السريعة، والعولمة المتسارعة، اللتين أنشأتا محركات جديدة تدفع الدول والمؤسسات نحو الابتكار والتنمية الاقتصادية؛ ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها مشاهد مُعقدة تتطلب من راسمي السياسات والمعنيين بالشأن الاقتصادي تبني استراتيجيات مرنة وقابلة للتكيُّف مع التغيرات العالمية.
الانتقال من التصنيع إلى الاقتصاد القائم على المعرفة
من أبرز التحولات التي شهدها العالم أخيراً الانتقال التدريجي في عدد من الدول المتقدمة من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد القائم على المعرفة والخدمات. وهذا التحول لا يمثل مُجرد انتقال من «القوى العاملة البشرية» إلى «النظم الإلكترونية الذكية»، بل انتقال من مبادئ الاقتصادات المعتمدة على الإنتاج المادي إلى أخرى تعتمد على المعلومات والابتكار. ويعكس هذا التغير تحولاً جوهرياً في البنية الاقتصادية العالمية؛ إذ تنامت أهمية القطاعات المعرفية والتكنولوجية مثل البرمجيات، والاستشارات، والتعليم، والرعاية الصحية.
ووفقًا لمكتب إحصاءات العمل الفيدرالي (BLS)، تراجع عدد العاملين في قطاع التصنيع بنسبة 33.7 في المئة من إجمالي القوى العاملة الأميركية، من 19.55 مليون عامل في عام 1979 إلى 12.96 مليون في عام 2023. وفي المقابل ارتفع عدد العاملين في قطاع الخدمات من 77.5 مليون عامل في عام 1979 إلى 128.5 مليون في عام 2019؛ أي بنسبة 65.81 في المئة.
عالمياً، تشير الدراسات إلى أن العديد من الاقتصادات النامية تشهد تحولات كبيرة نحو تفضيل قطاع الخدمات، مثل الهند التي يعمل 61 في المئة من قوتها العاملة غير الزراعية بهذا القطاع، ونيجيريا 88 في المئة، والبرازيل 70 في المئة. وتشير هذه الأرقام إلى أن قطاع الخدمات أصبح يستوعب جزءًا أكبر من القوى العاملة، في وقت تشهد فيه الصناعات التقليدية انتقالاً إلى الدول ذات تكاليف الإنتاج الأقل. ويتزامن هذا التغير مع تأثير ملحوظ للأتمتة والتطور التكنولوجي، اللذين يقودان سياسات تقليص العمالة في الصناعات التقليدية، والتحول نحو القطاع الخدمي.
صعود الاقتصادات الناشئة
تزايد دور الاقتصادات الناشئة في الاقتصاد العالمي. ومنذ بداية الألفية الجديدة، استطاعت الصين أن تضاعف حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي أكثر من مرة لتصل إلى 17.8 في المئة عام 2020، بعدما كانت لا تتجاوز 3.6 في المئة عام 2000. وهذا التوسع الضخم في الاقتصاد الصيني هو جزء من دائرة دراماتيكية اتسع فيها إسهام اقتصادات دول مثل الهند والبرازيل وروسيا في تغيير الديناميكيات التجارية والمالية العالمية. وقد خلق النمو السريع لهذه الاقتصادات فرصاً جديدة في أسواق العمل العالمية، وأدى إلى تغييرات كبيرة في سلاسل الإمداد الدولية.
ثورة التكنولوجيا والرقمنة
كان التحول التكنولوجي أحد العوامل الأخرى المهيمنة على الاقتصاد العالمي. ومنذ بداية القرن الحادي والعشرين، أصبحت التكنولوجيات الرقمية محورَ عمل أساسيًّا في جميع القطاعات الاقتصادية؛ وفرضت تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبلوك تشين مناهج جديدة في الإنتاجية، وفتحت أبواباً لفرص لا حصر لها في مجالات التجارة الإلكترونية، والصحة الرقمية، والتمويل التكنولوجي. وتشير التقديرات إلى أن مبيعات التجارة الإلكترونية العالمية ستتجاوز ثمانية تريليونات دولار بحلول عام 2027، مقارنة بـ5.8 تريليون في عام 2023. ويبين هذا الارتفاع الكبير في حجم التجارة الإلكترونية الاتجاه العام نحو التحول الرقمي، والإنفاق التكنولوجي المتزايد، خاصة على تقنيات الذكاء الاصطناعي. ويشير تقرير صادر عن «بلومبيرغ»، في يناير 2025، إلى ارتفاع حجم التمويل الموجه إلى شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة بنسبة 150 في المئة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، وتوقع أن تصل سوق الذكاء الاصطناعي العالمي إلى 320 مليار دولار في عام 2025، مع استمرار نموه في السنوات التالية.
التحولات في السياستين التجارية والمالية
على الرغم من الوجه الإيجابي لهذه التحولات؛ فإن الاقتصاد العالمي لا يزال يواجه قضايا مُعقدة، خاصة فيما يتعلق بالتوترات التجارية بين القوى الكبرى؛ إذ أصبحت التغيرات في السياسات التجارية، مثل التعريفات الجمركية، تقود عمليات إعادة تنظيم سلاسل الإمداد، وتدفع الشركات إلى التفكير في استراتيجيات بديلة لإدارة الإنتاج والموارد. وقد تكون لهذه التغيرات آثار سلبية في مستويات النمو الاقتصادي على المدى القصير، لكنها تفتح المجال أيضاً أمام إعادة تقييم الهياكل التجارية والمالية على المستوى العالمي.
التحديات البيئية
من جانب آخر، بدأت القضايا البيئية تتحول إلى أولوية في السياسات العالمية؛ وأصبح التحول نحو التنمية المستدامة من المطالب العالمية الأساسية لموازنة النمو الاقتصادي، مع الحفاظ على البيئة. وفي عام 2015 وقَّعت 195 دولة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، اتفاقية باريس للمناخ؛ بهدف تقليل الانبعاثات الغازية، والحد من ظاهرة الاحتباس الحراري. وأصبحت الاتفاقية تضع ضغوطاً كبيرة على الدول لتغيير أولويات أجنداتها الوطنية، وتعكس كذلك المخاطر البيئية والاقتصادية التي تلوح في الأفق، والتي يمكن أن تهدد استدامة النظام الاقتصادي العالمي في المستقبل.
النماذج الاقتصادية الجديدة
لعل أكبر تحول شهِدته الساحة العالمية كان جائحة «كوفيد-19»، التي سرَّعت بعض التحولات الهيكلية؛ فقد دفعت الجائحة، ومخاوف انتشار الأوبئة المؤسسات والشركات إلى تسريع اعتمادها على التقنيات الرقمية، مثل العمل عن بُعد، وتجارة الإنترنت، والتعليم الرقمي. وبوجه عام أحدثت أزمة الصحة العامة تغييرات كبيرة في أسواق العمل، مع زيادة الاعتماد على الوظائف المؤقتة أو المرنة، وتطور نماذج اقتصادية جديدة مثل الاقتصاد التشاركي، والعمل الحر. وبحسب تقرير إحصائي لمنصة «ستاتيستا»؛ فإنه يُتوقَّع أن تصل القيمة الإجمالية للاقتصاد التشاركي العالمي إلى 600 مليار دولار بحلول عام 2027، مقارنة بنحو 113 مليار دولار في عام 2021.
التركيبة السكانية
فيما يخص التغيرات الديموغرافية؛ فإن ارتفاع معدلات الشيخوخة في بعض الدول يمثّل تحدياً كبيراً للأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. ويُتوقَّع أن يُشكل الأشخاص فوق سن 65 عاماً 16 في المئة من سكان العالم بحلول عام 2050، مقارنة بـ9 في المئة عام 2019؛ ما سيضغط على الأنظمة الصحية والتقاعدية. أما الدول التي تشهد انخفاضاً في معدلات النمو السكاني، وارتفاع أعمار سكانها؛ فستكون بحاجة إلى سياسات داعمة لاستدامة القوى العاملة، وتوفير الرعاية الاجتماعية.
فرص التغيير والتحديات المستقبلية
من الواضح أن التحولات الهيكلية في الاقتصاد العالمي تمثل نقطة تحول جديدة في تطور النظام الاقتصادي. وستوفر هذه التحولات فرصاً تنموية كبيرة، لكنها في المقابل ستفرض واقعاً مختلفاً يتطلب توازناً دقيقاً بين السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية. وسيتطلب الواقع الجديد من الحكومات والشركات تبني استراتيجيات مرنة ومتجددة لمواكبة هذه التغيرات، قائمة على مبدأ أن تكون التنمية المستقبلية تسير في اتجاه التوازن والاستدامة، وتمكين الجيل المقبل من مواصلة البناء على هذه التحولات، واستثمارها بأسلوب فاعل ومؤثر.
 

*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية