ما يجري في سوريا، بالغ الأهمية، وشديد الحساسية، وعظيم الأثر، فامتداداته التاريخية والهوياتية والدينية والمذهبية والعرقية، لها حضورٌ كبيرٌ وطاغٍ في كل مجريات الأحداث. وإن لم تكن تعرف «الدروز» وتاريخَهم، فإنك حتماً لن تعرف «القبائل» البدوية.. فالقبلية جزء من الهويات الإنسانية التي ما زالت فاعلةً بقوةٍ في حاضر الدول العربية وشعوبها.
منذ قرونٍ جاء المستشرقون للجزيرة العربية وكتبوا تقارير سياسية واجتماعية وجغرافية في كثيرٍ من الدول والمناطق التي لم يكن التعليم فيها منتشراً أو تسيطر عليه فئةٌ اجتماعيةٌ دون غيرها، وتحوّل الكثير من الكتابات، لا في الجزيرة العربية فحسب، بل في شتى أنحاء العالم إلى كتبٍ ومراجع تاريخيةٍ مهمةٍ. الجزيرة العربية وامتداداتها الاجتماعية في العراق والشام كانت واحدةً من تلك المناطق الجغرافية التي زارها الكثير من المستشرقين والرحالة لأهدافٍ تخدم بلدانهم ودولهم، أو تخدم العلم والمعرفة، لكنهم أبداً لم يفهموا تركيبةَ المجتمع فيها، ولا طبيعةَ القيم التي تحكمه، ولا توازنات القوى القبلية فيه، ولا تعاملات القرى الحضرية وطبيعتها.. إلخ، ومن هنا فقد وثّقوا أشياء مهمةً جداً بات يستفيد منها مواطن الجزيرة العربية في السعودية ودول الخليج بشكل رائع حين تعلّم ودرس وبات يفتش عن المصادر والمراجع والآثار والنقوش، غير أن طبائع الشعوب تختلف عن هذا.
لم يستطع أولئك المستشرقون، على الرغم من جهودهم المضنية، الوصول إلى الحس الإنساني والمعرفة الأنثروبولوجية التي تحكم إنسانَ الجزيرة العربية وتدير علاقاتِه وترسم توازناتِه في السلم والحرب، وفي أخلاق «المروءة» وتكاليفها.
في لقاء مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل سنواتٍ، تحدث لصحيفة «ذا أتلانتك» الأميركية، شارحاً هذا البعد، فقال: «السعودية دولة ملكية، أقيمت وتأسست على هذا النموذج، ولقد أخبرتكم أنه تحت هذه الملكية هناك نظام معقد يتكون من أنظمة قبلية من شيوخ قبائل ورؤساء مراكز وهجر، وقد كنت أريد أن أوضح لكم مثالاً لكيف تبدو الملكية في السعودية». ومن قبل تحدّث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عن هذا البعد مع المعلمين قبل ثلاث سنواتٍ، قائلاً: «نحن عائلة واحدة، بغض النظر عن اللهجة أو الملابس أو القبيلة»، ثم تساءل سموه: «ما هي القبيلة الصحيحة؟»، فأجابه الحضور جميعاً «إماراتي».
وأكد سموه الجواب وأضاف: «هذه القبيلة الصحيحة، هذه القبيلة التي تجمعنا معاً». و«القبلية» تاريخياً لا تحمل معنى الاشتراك في النسب وحده، بل هي تشكلاتٌ قبليةٌ وتحالفات إنسانيةٌ أصلها النسب وقد تلحقها الأحلاف لأسبابٍ عدةٍ معروفةٍ تاريخياً. وبعض هذه القيم القبلية تؤثر في تعزيز الدولة، ولكنها في أحيانٍ أخرى تؤثر في تفكيكها وتفكيك الولاء لها.
وتحوّل «الهويات القاتلة» والولاءات لغير الدولة في سوريا هو أخطر تهديدٍ للدولة السورية نفسها، فصراع «العلويين» مع بعض «الميليشيات» وصراع «الدروز» مع «القبائل البدوية» كله يصب في رفض قيام الدولة السورية الآمنة والمستقرة، وبالتالي فهو يصب في حالتين: الأولى إحياء «الهويات القاتلة» كما كان يسميها أمين معلوف، وهي هويات حين تصطرع لا ينتهي صراعها.. والثانية تعزيز الولاءات الأقلّ من الدولة لتفرض سيطرتها وتأثيرها، وهو ولاء مضرٌ بقيمة الدولة نفسها وإن أفادها مرحلياً. وأخيراً، فإحياء «القبلية» في بلاد الشام، تنظيماتٍ وقيماً، سيشكل خطراً على امتداداتها في دول الخليج العربي، وبخاصةٍ حين نستحضر أنها اختلطت كثيراً مع تنظيمي «القاعدة» و«داعش» سابقاً.
*كاتب سعودي


