حينما تقف الروح أمام هذا السيل البشري المتدفق نحو الكعبة يتلاشى ضجيج العالم وتتراءى لك حقيقة لا تدركها الأبصار وحدها، وكأنك ترى قلوباً تمشي قبل الأجساد لكل وجه في هذا الطواف حكاية ولكل روح مسار طويل وشاق قادها إلى هذا الموضع تحديداً حيث تُعاد ولادة المعنى، وحيث يتجرد الإنسان من كل شيء إلا من احتياجه إلى الله.
من كل الأعمار ومن كافة أطياف الأرض وألوانها، يلتقون في نقطة مركزية واحدة. غاية تجمعهم من دون سابق ميعاد أو معرفة. البحث عن الرضا وهدف يتوحدون عنده رغم اختلاف الدروب وسلام يسكن الداخل، فيسكت صخب الحياة الذي لا يهدأ.
في هذا المكان، يسقط العمر كمقياس فمن جاء في ريعان شبابه يحمل حلماً يتشكل ببطء ومن جاء وقد اشتعل رأسه شيباً يحمل حلماً يرجو اكتماله قبل الرحيل الأخير. إنها لحظة استثنائية يلتقي فيها صوت البداية بصوت النهاية، وكلاهما ينطق بلسان واحد اللهم السلام.
تلك الأرواح تسبق الخطى نحو حضرة لا يدرك سرها إلا من ذاق حلاوة القرب. قد ترى العيون جموعاً تمشي لكن البصيرة ترى أرواحاً تعود إلى أصلها الأول، إلى النور الذي انبثقت منه إلى النقطة التي يتساوى عندها الصامت والباكي، المبتدئ والعائد الغريب والمستأنس لكل واحد منهم سفر طويل غير مرئي، وحكاية محفورة في صدره لا يسمع ضجيجها أحد، لكن الله يسمع دبيبها. كأنهم جميعا أتوا بأثقال همومهم فجردوها عند عتبة البيت العتيق، وتركوها لتذوب وتتلاشى تحت ظلال الرحمة المهداة.
يمشون كأنهم سيل من نور يتجه إلى مركز الوجود، إلى مقام لا يُطلب فيه جاه ولا سلطان، بل رضا يُطفئ نيران القلق في الداخل، ويعيد للقلب فرحه الأول، ذاك الفرح الفطري الذي نسيناه في زحمة الحياة المادية.
والمفارقة العجيبة التي التقطتها روحي قبل عيني في هذا المشهد المهيب أن ملايين البشر كانوا بلا شاشات تسرقهم من ذواتهم. الأيادي هناك لا تبحث عن ضوء أزرق وهمي، بل تمتد نحو السماء دعاء وتضرعاً. الوجوه خاشعة، والأصوات خافتة، وكأن العالم خارج حدود الحرم قد انطفأ وما بقي متوهجاً هو العلاقة الصافية بين الإنسان وربه.
لم أصدق كم بدت الحياة بسيطة وعميقة حين غاب عنها ما يُشتتنا لحظياً. حتى أولئك الذين التقطوا صوراً للذكرى، عادوا سريعاً إلى حالة الخلوة، إلى ذلك الهدوء المفقود في صخب المدن. وكأن هذا المكان يمنحنا درساً أن الطمأنينة لا تُصنع في الخارج ولا تُستورد من ضوضاء العالم، بل تُولد حين نلتصق بأرواحنا، وحين نُعيدها إلى الله لتتطهر من غبار الأيام.
هنا وسط هذه الجموع كنت أقرأ الوجوه وكأنني أتصفح فصولاً من كتاب إنساني واحد. نختلف كثيراً في الظاهر، ونتنوع كثيراً في الألسن والألوان، لكن شيئاً جوهرياً واحداً يجمعنا وهو بحثنا الدائم عن سلام يجعل قلوبنا قابلة للحياة من جديد.. ذلك السلام الذي لا يمنحه أحد في هذا الوجود.. إلا الله.
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.


