من أشد الأخطار التي قد تواجهها الشعوب هي تلك اللحظة التي يتحول فيها «الوهم» إلى سلعة تروج بين الناس، وتصبح «المقامرة» بالأوطان عقيدة تبذل التيارات المؤدلجة من أجل تحقيقها الغالي والنفيس. وهنا تكمن المعضلة الكبرى، إذ لا يقف طموح هذه التيارات عند حدود الاستحواذ على السلطة، ولكن في حقيقتهم يسعون إلى هندسة «إنسان بديل» و«مجتمع بديل»، ينشأ بين جنبات الدولة ولكنه لا ينتمي إليها، فهو منفصل عنها شعورياً وفكرياً.
ومن أمثلة تلك الأوهام العزلة التي يقع فيها الشاب عند دخوله دهاليز تنظيم «الإخوان»، فبدل أن يكون الدين دافعاً لصناعة السلام والتعارف بين أفراد الوطن، يتحول في أدبيات «الإخوان» إلى أداة للعزل النفسي، أو ما أسماه سيد قطب «المفاصلة الشعورية»، بحيث يعيش الفرد في مجتمع لا ينتمي إليه شعورياً، ومن هنا يُقنع المنتسب أن مجتمعه يعيش في «جاهلية» معاصرة، وأن الدولة وأنظمتها إنما هي «صنم» وجب تحطيمه، لصالح دولة أممية يتوهم هؤلاء الوصول إليها، تحت مسمى الخلافة!هذه التربية لا تنتج مواطناً صالحاً، بل تنتج مواطناً يعادي مجتمعه ودولته، لأنه يرى في نجاح دولته تهديداً لطموحه، وفي استقرار مجتمعه تأخيراً لمشروعه الوهمي، فتصبح عقيدته مواجهة الوطن والمجتمع، أي أن يعيش في صراع أزلي مع كل ما هو وطني، فيكون عمله الدؤوب تقويض مؤسسات الدولة، وتفتيت المجتمعات بإثارة النعرات والتحزبات بين أفرادها.
وهنا تكمن المفارقة الصارخة التي تفضح جنوح مسار «الإخوان» عن جادة الصواب، إذا ما عرض على «المرآة النبوية»، فبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤسس دولته علانيةً عقب وصوله إلى المدينة التي ازدانت بنوره، تقوم علاقات مجتمعها على تلك الوثيقة المدنية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة بـ «وثيقة المدينة»، التي أرست مبادئ المواطنة والتعايش بين مختلف أطياف المجتمع من مسلمين وغيرهم ومن مهاجرين وأنصار، ليكون المواطن عوناً لأخيه المواطن في السراء والضراء، يصر أولئك أصحاب «التنظيمات السرية» على إنشاء مجتمع موازٍ يحاكي التنظيمات السرية الباطنية، قوامها البيعة السرية والسمع والطاعة العمياء التي لا تخلف إلا دمار المجتمعات وتفكك أواصر ترابطها.
إن «الكيانات الموازية» لا يتوقف خطرها عند حدود الفكر، بل تتعداه لتكون سرطاناً يتفشى في عضد الدولة، فإذا هي تقتات على فشل الأنظمة الحاكمة، وتزدهر في ظل صراعات أطياف المجتمع الوطني الواحد، فلا تجدهم عبر تاريخهم يهرعون إلى وضع خطط علاجية أو استثمارية من شأنها الارتقاء بمستوى أوطانهم، إنما يسعون لتصدير تلك الشائعات الفضفاضة التي تدغدغ مشاعر العامة لتؤلبهم على الدولة وأنظمتها، ذلك أن غايتهم ليست التطوير والإصلاح اللذين يسعى إلى تحقيقهما رجالات الدولة، بل يسعون إلى اختطاف الدولة بمنطق المُلاك الجدد، الذين يسخرون ما امتلكوه خدمةً لمآربهم الشخصية.
عندئذٍ يغيب الأمن والاستقرار، فتضيع مصالح الشعوب وتتوقف عجلة تطوير حياتهم، وحينها لا يجد الدين ما يدعم حضوره في الفضاء المجتمعي، فالله تعالى «يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». وبناء على هذا تكون الدولة هي الضامن الحقيقي لحفظ الدين والدنيا.
ومن هنا تبرز أهمية التمسك بـ «المواطنة» كطوق نجاة وحيد، فمفهوم المواطنة ليس مفهوماً مستورداً يتناقض مع الدين، بل هو الترجمة المعاصرة لمقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الحقوق وأداء الواجبات، والسعي لازدهار الأوطان وتقدمها في شتى المجالات.
إن معركتنا اليوم معركة عقول لا معركة سلاح، فمن واجبنا إعادة مفهوم «الانتماء» إلى مكانه الصحيح، فالمواطن الصالح هو الذي يبني وطنه بجد وإخلاص، موقناً أن الطريق إلى الله يمر عبر خدمة الخلق وحماية الوطن، لا عبر الممرات السرية والمؤامرات التي لا تكسب الدول والشعوب إلا الضعف والهوان.
*كاتب إماراتي


