أول مرة التقيتُ البابا يوحنا بولس الثاني كان في عام 1987 أثناء زيارة رسمية كان يقوم بها إلى مالطا. كنت في ذلك العام أشارك في مؤتمر دولي في العاصمة فاليتا. قدمني إليه أسقف المدينة مع عدد من الأصدقاء المشاركين في المؤتمر من دول عربية مختلفة. وعندما ذكر له اسمي واسم الدولة التي أنتمي إليها، استوقفني البابا وأمسك يدي بكلتا يديه وقال: مِن لبنان؟.. ماذا تفعلون للبنان؟. وكان ردّي على الفور: بل ماذا تفعلون انتم من أجل لبنان؟.
يومها كانت الحرب اللبنانية الداخلية تمرّ في إحدى أسوأ مراحلها المدمرة. كان الضحايا يتساقطون في الشوارع، وكانت البيوت تنهار على من فيها من شدة القصف، وكانت المزارع تحرق بما فيها من ضرع وزرع.
فوجئ البابا بالجواب، وعلت على وجهه حمرة شديدة وقال: سوف ترى ماذا نفعل للبنان.. إن الوقت ليس مناسباً الآن لكلام أكثر..
مرّت سبع سنوات على هذا اللقاء. وفي عام 1994 عُقد في الفاتيكان "سينودس" خاص - مؤتمر كنسي -من أجل لبنان بدعوة من البابا الذي أصرّ على أن يحضره ممثلون عن الطوائف الإسلامية اللبنانية، ليس فقط بصفة مراقبين، ولكن بصفة مشاركين. شكلت تلك الدعوة سابقة في تاريخ مؤتمرات الـ"سينودس" التي عقدها الفاتيكان حتى الآن. إذ أنه لم يسبق أن دُعي مسلم إلى أي من هذه المؤتمرات بما فيها تلك التي عقدت من أجل قارة آسيا أو قارة أفريقيا.
حضرتُ المؤتمر بتكليف من رئيس الحكومة اللبنانية ومفتي الجمهورية اللبنانية. وفي جلسة الافتتاح تقدمتُ من البابا وقلت له: هل تذكر حديث مالطا؟.
قال: أي حديث؟.
قلت له: الحديث عن لبنان .
وفجأة لمعت عينا البابا. وشدّني إليه وهو يقول: هو أنت؟.. لقد نسيت الاسم ولكنني لم أنسَ أبدا ذلك الحديث العابر. كم أنا سعيد بالمشاركة الإسلامية في الـ"سينودس" .. وبأن تكون أنت شخصياً معنا .
استمرّ الـ"سينودس" من أجل لبنان شهراً كاملاً ، شاركت في ثلاثة أسابيع منه. كنت خلالها التقي البابا مرتين كل يوم قبل الظهر وبعده. وكان يبدي دائماً الكثير من الود والمحبة.
وفي عشاء خاص على مائدته في شقته بالفاتيكان حيث كنا ثمانية أشخاص فقط، فوجئت بمبادرة بابوية على درجة عالية من النبل. فقد حرص على أن لا يقدم أثناء الطعام سوى الماء وعصير البرتقال احتراماً منه لعقيدتنا الإسلامية بتحريم الخمر. وفي أحد أيام الجمعة أثناء انعقاد الـ"سينودس"، أرسلت ورقة مكتوبة إلى أمين سر المؤتمر الكاردينال سكوت أبلغته فيها أنني سوف أغادر القاعة لأداء صلاة الجمعة في مسجد روما، ولذلك أرجو أن لا يساء تفسير غيابي عن بقية اجتماع اليوم .
اطلع الكاردينال البابا على الورقة وكان جالساً إلى جانبه على المنصة، وتبادل معه حديثاً قصيراً ثم تقدم من الميكروفون وأبلغ المؤتمر بمضمون الورقة. وأضاف: إن قداسة البابا يتمنى على الأخوة المسلمين (كنا ثلاثة، مع الصديقين القاضي عباس الحلبي ممثلاً الطائفة الدرزية، والدكتور سعود المولى ممثلاً المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى) أن يصلّوا من أجل نجاح الـ"سينودس". كانت تلك المبادرة سابقة بكل المقاييس. فالبابا رأس الكنيسة الكاثوليكية يتمنى على مسلم أن يصلي من أجل نجاح مؤتمر يعقد في حاضرة الفاتيكان برئاسته وبحضور مجموعة كبيرة من الكرادلة والبطاركة والمطارنة، وعلى مسمع منهم جميعاً!.
ولذلك لم أفاجأ عندما دعا البابا المسيحيين في مثل هذا الوقت من العام الماضي إلي مشاركة المسلمين في صوم اليوم الأول من رمضان.
أثناء العشاء الخاص روى البابا يوحنا بولس الثاني كيف وافق على بناء مسجد روما. قال إن محافظ العاصمة الإيطالية طرح عليه رغبة سفارات الدول الإسلامية في بناء المسجد طالباً رأيه. فردّ البابا ليس بالموافقة فحسب، بل بدعوة المحافظ إلى تقديم الأرض المخصصة لبناء المسجد والمركز الثقافي الإسلامي مجانا. وهكذا كان. وعندما بدأ بناء المأذنة جرى لفت نظر المسؤولين عن المشروع بأن لا يزيد ارتفاعها عن قبة الفاتيكان. وكان ذلك هو التحفظ الوحيد.
وعندما زار البابا لبنان في مايو 1996 حيث أعلن وثيقة الإرشاد الرسولي كمحصلة نهائية لأعمال السينودس من أجل لبنان، أوْلى حرصاً صادقاً على الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين اللبنانيين، وشدد على أهمية تأصيل العلاقة المصيرية بين العرب المسلمين والمسيحيين وعلى دور مسيحيي لبنان بصورة خاصة في تعزيز هذه العلاقة وتوثيقها. يومها أعلن عبارته الشهير إن لبنان هو أكثر من دولة إنه رسالة.
وفي هذا العام الذي بلغ فيه من العمر 84 عاماً، احتفل بمرور ربع قرن على اعتلائه أعلى منصب في الكنيسة الكاثوليكية التي يزيد عدد أتباعها على المليار مسيحي في شتى أنحاء العالم. لم تكن صحة البابا جيدة دائماً. فلقد كان يشكو من مضاعفات حادث سيارة تعرّض له أثناء عمله في مناجم بولندة وهو لا يزال شاباً. ثم أصيب بكسرين في كتفه وساقه. وأصيب بعد ذلك بمرض سرطاني خبيث في الأمعاء. كما أصيب بداء المفاصل. إلا أنه استقوى على كل هذه الأمراض إلى أن أصيب بم