انتصار الروس في حرب القوقاز وسقوط الرئيس الباكستاني برويز مشرف عنوانان كبيران في بورصة الأخبار. لكن هل ثمة شيء مشترك بين العنوانين أو الحدثين؟ التيار الرئيسي في التحليل السياسي في العالم العربي يراهما تعبيرين مرتبطين عن تراجع القوة الأميركية. بل يذهب البعض إلى القول بأن حلفاء أميركا عموماً بدؤوا يتساقطون في بعض المناطق الأساسية للصراع الدولي، وخاصة في شمال آسيا. ومن زاوية معينة، فإن سقوط برويز مشرف يعني أن أميركا فقدت واحداً من أهم حلفائها في هذه المنطقة الحساسة التي قد تحدد مصير استراتيجية "الحرب ضد الإرهاب". ولم يسقط الرئيس الجورجي سكاشفيلي وإن كانت سمعته السياسية سقطت في الوحل، ليس فقط بسبب مغامرته التي تكشف عن سذاجة بل وأيضاً بسبب الأداء الوحشي لجنوده في أوسيتيا الجنوبية والذي يجرده من معنى الشجاعة والشرف الذي اكتسبه أثناء "الثورة الوردية". ولا خلاف على أن هزيمة جورجيا تمثل نكسة كبيرة للسياسة الأميركية في القوقاز. وإن شئنا القول بأن الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وشمال آسيا تتعرض لنكسات خطيرة أو أنها على وشك الانهيار، فلدينا بعض الأدلة الإضافية. فمنذ شهور وأميركا تخسر ماء وجهها في لبنان مع انتصار "حزب الله" عسكرياً وسياسياً. وفقدت أميركا أيضاً بعض ماء وجهها بسقوط سياسة عزل سوريا وخاصة بعد أن دعتها فرنسا للمشاركة في مؤتمر "الاتحاد من أجل المتوسط". وعلى نفس القدر من الأهمية وربما أكثر، تتعرض قوات حلف الأطلنطي لهزائم تكتيكية لكنها دالة للغاية على أيدي حركة "طالبان" في أفغانستان. ولو قلنا إن أميركا خسرت الرهان في أولمبياد بكين، سياسياً ورياضياً، لا نكون قد بالغنا كثيراً. وفضلاً عن ذلك فهناك نقد متصاعد وشديد لأداء إدارة بوش الخارجي، من الداخل والخارج معاً. وفي آخر استطلاع للرأي العام أجراه منبر السياسات العالمية الأميركي، تأكد مرة أخرى تراجع هيبة أميركا وقوة التيار الشعبي الرافض لها في جميع أنحاء العالم. أما في داخل أميركا ذاتها فتكفينا ظاهرة أوباما المفاجئة كدليل على رفض سياسات بوش الخارجية. ويتأكد هذا النقد، ليس فقط من حيث المعايير الأخلاقية، بل المعايير الواقعية أيضاً. إذ يؤكد القطاع الرئيسي في الفكر السياسي الأميركي أن سياسات بوش كانت سيئة التوجيه والتخطيط والتنفيذ لأنها خلطت بين الشعارات الصماء والمصالح الحقيقية، ولم تفهم أن العالم يتغير، وأن شرط قبول العالم لأميركا أن تقبل أميركا العالم وتتعاون معه لا أن تقهره وتمارس عليه سياسات البطش والإجبار. وإن كانت أميركا تخسر ولو جزئياً، فبعض خصوم أميركا يكسبون ولو جزئياً. وتشكل هذه الديناميكية جانباً مهماً من الصورة أو من الموقف الاستراتيجي العالمي في اللحظة الراهنة. فإيران تضاعفت قوتها بحكم الانتقال الصعودي العنيف للنفط استراتيجياً واقتصادياً. وهي تستعرض الآن نجاحات جهودها لتطوير نظم تسليح مهمة وتثبت بالتالي إمكانية نجاح سياسات وطنية للتطوير والابتكار التكنولوجي في الميدان العسكري. وقد نجحت دبلوماسياً إلى حد ما بعدما تلقت دعماً من حركة عدم الانحياز. ونجحت سياسياً من خلال اتفاق الدوحة الذي أعاد "حزب الله" قوياً للحكومة اللبنانية. كما احتفظت- عكس بعض التكهنات- بتحالفها الاستراتيجي مع سوريا. أما الجديد فعلاً فهو الفورة الاستراتيجية الجديدة لروسيا، والتي ظهرت عبر سلسلة من العلامات والرسائل. فهي تحسن وضعها الدولي بفضل النفط وعقود صادرات أسلحة وتكنولوجيا جديدة. ونجح بوتين في ترتيب انتقال سياسي على أعلى مستويات السيطرة والهدوء دون أن يخرق وعده بالحفاظ على الدستور. ويصطف خلفه الشعب الروسي بصورة مذهلة. وتتحسن معنويات المجتمع بسبب استعادة الاستقرار البيروقراطي بعد أن سادت فوضى كاملة لفترة طويلة. وبينما لا تزال هناك مشاكل لا تحصى في استعادة الدولة الروسية لقوتها من الداخل والخارج، فثمة ما ينبئ بأنها تمشي على الطريق. وانتصار روسيا السهل في جورجيا دليل مهم، خاصة إذا ما وضعناه في مقارنة مع الصعوبات الكبيرة التي واجهها الجيش الروسي في الشيشان عندما قرر إعادة غزو الإقليم المتمرد. لكن مشكلة التغطيات العربية لتحولات الوضع الاستراتيجي العالمي، أنها تضع الآمال والرغبات محل التقدير الواقعي للموازين الاستراتيجية الحقيقية. فأولاً لا يمكن أبداً استنتاج معنى واحد من جميع الحالات والمواقف. فسقوط مشرف في باكستان ليس بالضرورة نكسة سياسية لأميركا، رغم أنه حدث يفضح القصور الشديد للإدارة السياسية الأميركية لأوضاع إقليمي شرق وجنوب آسيا. فحزب "الشعب" الشريك الأكبر في الحكومة الباكستانية الحالية، ليس خصماً لأميركا. بل ربما يثبت أنه الأقوى والأقل تناقضاً في الحرب على الإرهاب التي تخوضها أميركا رغم عقم المحتوى الاستراتيجي وبؤس الآليات السياسية. ويهمنا هنا أن نتحفظ بشدة على الرأي الشائع في الصحافة العربية، والذي يرى بعثاً روسياً قريباً يتحدى أميركا ويوقفها عند حدها. فالواقع أن يوتين لم يقصد أبداً تحدي أميركا، لا في جورجيا ولا في غيرها. بل يمكن بكل ثقة القول إنه رجل أميركا في روسيا أكثر من أي شخص آخر. فهو الذي حفز بل وضغط على الجمهوريات السوفييتية السابقة، خاصة أوزبكستان وأذربيجان، لمنح أميركا قواعد واتفاقيات عسكرية في إطار الحرب على الإرهاب. وهو من سمح ضمنياً لأميركا بالمضي تسعة أعشار المشوار لنشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية. وهو أيضاً من سمح لهذه البلاد بالعضوية في حلف الأطلسي أملاً في إقناع أميركا بأن تضم روسيا ذاتها! وحتى إن حصرنا التحليل في حالة الحرب ضد جورجيا لا يصمد أبداً الرأي القائل بأن روسيا تقوم بانتفاضة في السياسة الدولية! ففي رأيي أن الأمر على العكس تماماً. فحتى الآن أثبتت الأحداث أن هذه واحدة من أكثر الحروب عقماً في التاريخ الروسي، بل وفي تاريخ الحروب والعلاقات الدولية الحديثة. لم يحقق منها بوتين أي هدف استراتيجي مهم. فهو لم يسقط خصمه الرئيس الجورجي، ولم يحصل على وضع مستقر لأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ولم يحقق شيئاً من رسالته لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، بما في ذلك رسالة الردع. لقد أخاف الشعوب الصغيرة في الاتحاد السوفييتي السابق ولم يكسبها، وهذا أمر مهم على المستوى الأيديولوجي والثقافي ومن ثم الاستراتيجي. أما أهم ظواهر الحرب على الإطلاق، فهي أن بوتين لم يستطع أن يخلخل التحالف الغربي، بل وقفت ألمانيا وفرنسا وأوروبا ككل مع أميركا، وبدت كأنها هي التي تتصدى لروسيا بأكثر وأسرع مما فعلت أميركا، وقد نجحت في إجبار روسيا سياسياً على الانسحاب دون تحقيق أي مكسب سياسي. يعني ذلك أن حرب بوتين لم تكن تستهدف غير الشرعية الداخلية. والرسالة كانت موجهة للشعب الروسي، وهي بالطبع رسالة كرامة تقول إن الشعب الروسي تجاوز شعوره بالإهانة القومية الشديدة. وحتى هذا المعنى يبدو مفتعلاً. إذ ما الكرامة في إمكانية تحقيق انتصار عسكري لروسيا الجبارة على بلد صغير لا يزيد عدد سكانه على 4 ملايين نسمة؟ إيران مسألة مختلفة، ليس لأن بلاد فارس تستطيع الانتصار عسكرياً على أميركا والغرب، بل لأنها تتشابك مع مصير منطقة الشرق الأوسط ككل، وهي أهم المناطق الاستراتيجية في العالم اليوم والتي لا تتمتع فيها أميركا بأي شعبية، بل تعاني من الكراهية والرفض بين الشعوب. ومع ذلك فإن إيران لم تكسب بذاتها في اللحظة الراهنة. ما حدث هو أن السياسات والمواقف الأميركية كانت ولا زالت سيئة جداً إلى حد أنها منحت خصومها، وخاصة إيران، مكسباً سياسياً واستراتيجياً بدون أي جهد من جانبها. ومع ذلك، وهذه نقطة الضعف الخطيرة في الحركة العالمية لمعارضة السياسات الأميركية، أنها لا تتناسق ولا تتحرك بوعي كوني أو أممي حقيقي، ولا تطرح بديلاً عالمياً ومبدئياً يشد الشعوب كافة. ويعني ذلك أن الخصوم المحتملين لأميركا ليس لديهم حتى الآن "مايسترو".