إن كان للعرب أن ينجحوا في اختبار التعددية ويتفوقوا في استيعاب الديمقراطية، فينبغي أن يجتازوا التحديات اللبنانية، التي تبدو اليوم هادئة. ارتبط لبنان في ثقافتنا السياسية دائماً بتعدد الطوائف وبالتأثير الحي والتحديثي الفعال للمسيحيين بالذات، وسط بحر عربي، إسلامي... ضاغط عليه باستمرار. ويقول كمال أديب في كتابه "سقوط لبنان المسيحي 1920-2020"، إن نسبة مسيحيي لبنان كانت بحدود 80% في عام 1920، عندما ولد لبنان الكبير، وأن نسبتهم تصل، أو وصلت، إلى 30%، وأن لبنان المسيحي سقط بأشكاله العسكرية والسياسية في عام 1976. كان المسيحيون، وبخاصة الموارنة، يقول باحث آخر، يعتبرون لبناناً كياناً أنشئ خصيصاً لهم، وأنه في الحقيقة امتداد للمتصرفية التي حكمها مسيحي مسؤول أمام السلطان العثماني، يعاونه مجلس إدارة مؤلف من سبعة مسيحيين وخمسة مسلمين. وقد أصرَّ المسيحيون على المحافظة على "لبنان الصيغة"، كما هو، وعلى ألا يفقد لبنان مبرر وجوده. أما مبرر وجوده بنظرهم، فهو أن يعيش المسيحيون والمسلمون فيه متساوين أمام القانون، ولا يضمن هذه المساواة بنظرهم إلا تولي المسيحيين للرئاسة الأولى فيه. لذلك رفض "بيار الجميل" في اللقاء الإسلامي- المسيحي عام 1975 في مطرانية الروم الأرثوذكس، مطالب الزعماء المسلمين بتغيير صيغة الحكم في لبنان، واتهمهم باتخاذ مواقف "نتيجة ضغوط معينة قد تؤدي إلى ضياع لبنان". كان أهل السنة هم ممثلو الموقف الإسلامي لدى نشوء أو ظهور الدولة اللبنانية الحديثة، وكان موقف المسلمين معارضاً لهذا الكيان. ففي عام 1922 أضربوا عن المشاركة في الإحصاء استنكافاً عن تقييدهم لبنانيين في أوراق الهوية! وفي عام 1926 قررت جمعية المقاصد الإسلامية رفض المشاركة في سنِّ الدستور اللبناني، وفي العام ذاته احتج النواب المسلمون على إلحاق مناطقهم بلبنان، وفي عام 1932 طالبوا بالرئاسة الأولى، وفي 1933 طالب "مؤتمر الساحل" الإسلامي في بيروت بضم المناطق الملحقة بلبنان إلى سوريا، وفي عام 1937 قدم المجلس القومي الإسلامي برئاسة "سليم علي سلام" مذكرة احتجاج لفرنسا يطالب فيها بالوحدة مع سوريا، وفي 1942 تشكلت "الكتلة الإسلامية" من وجوه السنة والشيعة والدروز في مواجهة "الكتلة الوطنية" المسيحية، وفي 1943 انعقد بين المسيحيين والمسلمين اتفاق غير مكتوب يدعى "الميثاق الوطني" على أساس "وجود لبنان سيد ومستقل يتخلى فيه المسلمون عن المطالبة بالوحدة مع سوريا مقابل تخلي المسيحيين عن الحماية الفرنسية، ويتمثل المسيحيون في البرلمان بنسبة ستة إلى خمسة من المسلمين، على أن يكون رئيس الجمهورية مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً. وفي عام 1958 ثار المسلمون في عهد الرئيس "كميل شمعون"، إثر إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، لضم لبنان إليها، وهو ما جوبه بمعارضة مسيحية شديدة. وفي عام 1975، في الحرب الأهلية اللبنانية، قال رئيس الوزراء "رشيد كرامي" في البرلمان "إن الميثاق وضع لمرحلة وقد تغيرت الظروف الآن"، وأكد المفتي "حسن خالد" هذا القول في لقائه مع الموفد الأميركي "دين براون". وفي اللقاء الإسلامي-المسيحي بمطرانية الروم الأرثوذكس، طالب "صائب سلام"، معبراً عن المسلمين بتغيير النظام الانتخابي، وطالب رشيد كرامي" بتبديل النظام الرئاسي، فينتخب الرئيس من الشعب مباشرة، وفي 19 مايو 1975 أكد "رشيد كرامي" عزمه على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية! ومن نقاط التحول المعروفة في تاريخ لبنان المعاصر "اتفاقية الطائف" عام 1989 وقراراتها بشأن توزيع السلطة. وقد ألغى هذا الاتفاق الهيمنة المارونية على الحكم ووزعها بشكل متساو على الطوائف الثلاث، الموارنة والسنة والشيعة. وأصبح رئيس الجمهورية رئيس دولة لا رئيس السلطة التنفيذية كما كان في السابق، إذ كان مسؤولاً عن تعيين الوزراء. وصارت مهامه الآن مقتصرة بالمحافظة على الدستور والاستقلال ووحدة الوطن وسلامة أرضه. ويسمِّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة بعد استشارات نيابية يتابعها مجلس النواب، ويصدر مع رئيس الحكومة مراسيم تشكيلها. ويتولى أحد زعماء السنة رئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، ويشارك رئيس الحكومة رئيس الوزراء في إبرام الاتفاقيات. ويتوزع مجلس النواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين على قاعدة التمثيل الطائفي، ويتولى الشيعة رئاسة المجلس. ولم تبرز بعد توقيع هذه الاتفاقية شخصية لبنانية استقطبت تعاطفاً شعبياً واسعاً مثل "رفيق الحريري" الذي لعب دوراً محورياً في إنجاح الاتفاقية، وتولى رئاسة الحكومة، وقام بإعادة بعث لبنان ما بعد الحرب، مثل إنشاء البنى التحتية وتثبيت العملة الوطنية وجذب الاستثمارات والقروض وإعادة إعمار الوسط التجاري (سوليدير) وجعل لبنان مركزاً للمؤتمرات العالمية، وحوّل لبنان إلى مركز مالي بارز في الشرق الأوسط. فقد أسس مؤسسة الحريري التي تولت الإشراف على البعثات التعليمية إلى أوروبا والولايات المتحدة، وأنفقت على نحو ثلاثين ألف طالب لبناني. ولهذا لم يكن اغتياله البشع يوم 14 فبراير 2005 كارثة سياسية فحسب، بل مصاباً وطنياً أليماً. ويؤكد الكثير من الكتاب والمحللين "أن المشكلة اللبنانية ليست مشكلة أقلية وأغلبية، كما أنها ليست مشكلة طوائف متناحرة، بل المشكلة هي في الارتهان السياسي الداخلي للقوى الخارجية إقليمياً ودولياً، وذلك بدءاً من العام 1920، ثم مرحلة الاستقلال في العام 1943، مروراً بحرب الأعوام الخمسة عشر، وانتهاء بأزمته الحالية، ما يعني أهمية البحث عن حل للمشكلة في الخارج، وليس في الداخل، بل إن أبرز حل لمشكلات لبنان الداخلية تمّ في الخارج". لبنان يرزح تحت دَيْن مرهق مرشح لاختراق الـ50 بليون في نهاية العام الماضي. ويوازي الدين نحو 165 في المائة من الناتج المحلي، وهو من أعلى المعدلات عالمياً! الخدمات الصحية الأعلى تكلفة، يقول زين الدين، "والأكثر سوءاً في الوقت ذاته"، بسبب التشتت في عمل هذه الهيئات، وغياب البطاقة الصحية الموحدة، وفقدان الآليات العلمية والمعلوماتية. والمواطن يواجه في فترات متتالية رفضاً لاستقباله من قبل المستشفيات بسبب مشاكل تسديد المستحقات من قبل الهيئة الضامنة. أضف إلى هذه مشاكل الغلاء والغذاء، والسكن والمواصلات وأزمة السير". ومن مشاكل لبنان والعديد من الدول العربية: البطالة، وإذا كان سبب هذه الظاهرة في دول عديدة، اقتصاديا بالدرجة الأولى، فإن لها في لبنان أسباباً أخرى. د. ميشيل عبس، الباحث في الاقتصاد الاجتماعي اللبناني يقول "يُنتج النظامُ السياسي في لبنان بطالة مُقنَّعة ولا يشجع على الابتكار، حيث يتم الاستخدام أي التوظيف، في المؤسسات الرسمية، وفقاً لمعيار المحسوبية وليس الكفاءة". الثقافة الاجتماعية اللبنانية تدفع الناس دفعاً باتجاه اختيار المهن ذات المرتبة الاجتماعية العالية كالطب والهندسة، على حساب القطاعات الأخرى. ولا توجد حتى الآن إحصاءات دقيقة، ولكن نسبة البطالة تقدر بنحو 20? من القوة العاملة. ومن جانبها تقول مدرسة علم الاجتماع في إحدى الثانويات اللبنانية "جيزال الحاج"، إن "طبيعة النظام السياسي الطائفي في لبنان والمحسوبيات الحزبية والطائفية تنتج ما يسمى البطالة المقنعة حيث تمتلئ المؤسسات الرسمية بالموظفين المتسللين إليها عبر التوازنات الطائفية أو المحسوبيات الحزبية، كما أن منافسة اليد العاملة الأجنبية لليد العاملة المحلية أحد الأسباب البنيوية للبطالة"). أي اجتمعت في لبنان، على المواطن المسكين وطالبي الوظائف، الأمراض العربية والعلل الطائفية اللبنانية.. و"مشاكل التوظيف الخليجية"!