من أغرب جوانب تاريخنا الثقافي، أن الغناء اعتبر في أحيان كثيرة شأناً سياسياً يمنع أو يشجع من قبل السلطات، ويقرب المغني من السلطان والبلاط أو تنزل به أقصى العقوبات! كان الغناء في صدر الإسلام مكروهاً إن لم نقل محرماً، واختلف الفقهاء فيه، فيقال إن أهل الحجاز أجازوه وأهل العراق كرَّهوه، وحُلل بعض الغناء وحُرِّم بعضه، حتى مضى عصر الراشدين. وانتشر الغناء تدريجياً مع العهد الأموي رغم أن مؤسس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، يعيب على الراغبين في الغناء، ولا سيما أهل الوجاهة والشرف، وإن سره اشتغال بعض منافسيه باللهو والطرب كي ينصرفوا عن أهدافهم السياسية، ثم تساهل الخلفاء من بعده في استقدام المغنين إلى دمشق، وأخذ الغناء في الانتشار. ويقول جرجي زيدان في تاريخه: "إن أهل التعقل من الخلفاء والأمراء كانوا لا ينفكون عن منعه جهد طاقتهم، وكان العقلاء من غير الحكام يحرضون الولاة على منعه حتى في المدينة معدن الغناء في ذلك العصر. وكثيراً ما كان أمير مكة يخرج المغنين من الحرم خوفاً من افتتان الناس بغنائهم وصرفهم عن أمور دينهم، ولم يكن أهل الغيرة على العرض يصبرون سماعه... جـ5، ص 42). وكان بعض الخلفاء من الأمويين يحب الغناء ولكنه يخاف عواقب تحرر المجتمع وما قد ينشأ عن ذلك من مشاكل مع الفقهاء أو مع خصومه. فكتاب الأغاني ينسب إلى الخليفة الوليد بن يزيد (743-744م) الذي كان أول من استقدم المغنين إليه في دمشق، "إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياة ويزيد الشهوة ويهدم المروءة ويثور على الخمر ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم فالين فجنبوه النساء، فإن الغناء رقية الزنا، وإني لأقول ذلك فيه على أنه أحب إليّ من كل لذة وأشهى إلي من الماء البارد إلى ذي الغلة، ولكن الحق أحق أن يُقال". (زيدان، ص 43). وكاد التضييق على الغناء أن يمنع كل أشكال الترفيه البريء، إذ يقول المؤرخ المسعودي إن أحد الخلفاء الأمويين سمع عن "أشعب"، المضحك في المدينة، فأمر كاتبه أن يكتب باستقدامه، فلما ختم الكتاب أطرق طويلاً ثم قال: "هشام يكتب إلى بلد رسول الله ليحمل إليه مضحك".. وأوقف الكتاب. وتقول "الموسوعة العربية الميسرة" عن أشعب، إنه كان ميلح النادرة ظريفاً شديد الطمع، واشتهر بطيب الصوت وحسن الرواية في الغناء، فإذا غنى أصواتاً أجادها إجادة تامة.. وكان بارعاً في الرقص، قادراً على إثارة الضحك بما يجريه على وجهه وجسده من تغيير غريب، ويدلي به من التعليقات اللبقة والردود السريعة. فصار نديماً ومسلياً للأشراف والخلفاء يقدر على استخراج أموالهم ويحرص على حضور مآدبهم حتى عُرف بالطمع، ونُحلت إليه النوادر الصحيحة وغير الصحيحة. وكان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور يعيِّر آل الزبير بحبهم للغناء. وسمع ذات يوم ضرب طنبور في داره فكسره على صاحبه. وكان المهتدي العباسي يتشبه بعمر بن عبدالعزيز، الذي بلغه في زمان حكمه أن قاضياً من قضاته استخفه الطرب من الغناء فعزله، فلما تولى المهتدي الحكم أمر بمنع الغناء، كما بادر بعض الولاة والحكام بمنع الغناء. ولكن الغناء شق طريقه وسط كل المواقع مع تغير الولاة والخلفاء والحكام وكرم بعضهم. "فقد أعطى المهدي دحمان المغني في ليلة واحدة خمسين ألف درهم لأنه أطربه، وأعطى الأمين اسحق الموصلي مليون درهم لأنه غناه شعراً في مدحه فحملها إلى داره مائة فرَّاش. وكان الهادي يجري على إبراهيم الموصلي عشرة آلاف درهم في الشهر غير صِلاته أي مكافآته. ويرتبط الشعر عادة بالغناء والنشيد، ومن يرجع إلى المدينة في عصر ما قبل الإسلام "يجد الشعر فيها كثرة مفرطة"، كما يذكر د. ضيف. واستمر الشعر محتفظاً ببعض الأهمية بعد ظهور الدعوة، حيث تمت الاستعانة بشعراء الأنصار للرد على هجاء شعراء قريش للإسلام. وروى الأصفهاني أن هجاة الدعوة كانوا ثلاثة رهط من قريش: عبدالله بن الزِّبَعْري، وأبوسفيان بن الحارث وعمرو بن العاص، فتصدى لهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة. الحركة لم تكن في المدينة نفسها، إنما كانت في العراق مع الجيوش المقتتلة هناك. وإذا انتقلنا إلى العصر الأموي وجدنا الشعر ينهض في المدينة نهضة واسعة". (الشعر والغناء ، ص 72)، وكانت التركيبة السكانية للمدينة قد تغيرت بعد نفي اليهود حيث سكنتها جماعة كبيرة من قريش، كما نزحت إليها جماعة كبيرة من الموالي الأجانب. وكان لهذا الخليط من قريش والأنصار والموالي في المدينة نشاط واسع في الشعر في أثناء هذا العصر. وانقسم الشعر إلى فرعين تقليدي وغنائي. الأول يشمل الهجاء والمديح، والثاني الغزل. وكان الثاني يتفوق على الأول تفوقاً شديداً في كثرة من مارسوه، وكثرة ما انحدر منه من نماذج. ولم يهتم أغلب القرشيين بشعر الهجاء سوى عبدالرحمن بن الحكم. وكان المدح أكثر شيوعاً في شعراء بحكم حاجتهم المادية. "وكانوا يمدحون النبلاء الذين يجاورونهم من أهل المدينة. ويقول د. ضيف، كان من نتائج ذلك الترف "أن نفرت إلى حد ما، مما يمثل حياة العرب القديمة وخاصة هذه الحياة التي تقوم على الصعوبة في الخُلُق والخشونة، فيكون الهجاء، ثم هي كانت من الثروة والترف بحيث لا تحتاج إلى مال بني أمية، وبحيث يضطرها هذا المال إلى أن تسرف في مديحها للأمويين، ثم هي كانت معارضة لبني أمية، فلم يطلب منها الأمويون شعراء المدح الذين يباهون بهم الأقاليم الأخرى وشعراءها". وبجانب هذا كله، كانت المدينة مكتظة، يقول د. ضيف، "بدور الغناء والمغنين والمغنيات، وكانت هذه الدور تطلب دائماً غزلاً يُغنّى، وكان هذا الغزل هو الذي يشيع، لأن أشراف المدينة وسادتها كانوا يطلبونه لمغنيهم ومغنياتهم، وكانوا إذا فقدوه في المدينة طلبوه في شعر البادية. وكان كثير من شعراء المدينة يقصر نفسه على الغزل وحكاية عواطف الحب، إما لأنه من سادتها أو لأنه يريد أن يرضي دور الغناء فيها. وأخذ المغنون يشتهرون بمجموعات من هذه الغزليات التي كان ينتجها الشعراء، وكانوا هم يغنون فيها. وحتى عمر بن العزيز وهو والٍٍ على المدينة، نجده يشتهر بسعادياته، وهي سبعة ألحان تُذكر فيها كلها "سعاد". وكانت المرأة الشريفة في المدينة لا تجد حرجاً في أن تذكر في الشعر، وأن يتغنى الشعراء بها، لأن في هذا اعترافاً بجمالها، "وكأنما كان هذا الغزل حينئذ يشبه صحافتنا الحديثة، فكما أنك قلما تجد الآن سيدة ترفض أن تظهر صورتها في صحيفة يومية أو أسبوعية، فكذلك كان هذا الغزل في العصر الأموي صحافة العصر. وأشاع إعجاب نساء المدينة وفتياتها بهذا الشعر رقة شعور عامة، كما أشاع ظرفاً ودماثة. وحتى بعض فقهاء المدينة أخذوا يشتركون في هذا النظم، فكان منهم شاعران في هذا العصر هما عروة بن أذينة، وكان معدوداً بين الفقهاء والمحدثين، وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة". (ص99). ويشير الباحثون إلى أن أغاني الغزل لهذا العصر أصبحت شعراً شعبياً عاماً تتردد مقطوعاته، كما أغاني اليوم، في جوانب العالم العربي، إذ لم يكن للعرب حينئذ صحف يقرؤونها سوى الشعر، وليس من شك في أن القوافل في أسفارها أدت دوراً مهماً في إشاعة هذه الأغاني في ذلك الزمان، كما تفعل الصحف والفضائيات في يومنا هذا.