لا تزال قضية الهجرة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على القارة الأوروبية تحتل موقع الصدارة ضمن موضوعات الاستظهار والنقاش العام الأكثر إثارة وحدّة في العديد من دول القارة العجوز، وتكتسي هذه القضية أهمية استثنائية خاصة بالنسبة لفرنسا تحديداً بحكم وجود جالية من أصول مهاجرة هي الأكبر، وأيضاً لحدة وتجذر التجاذب القائم بين قيم العلمانية الفرنسية وثقافات المهاجرين الأصلية، الآتين في معظمهم من مجتمعات ذات ثقافة دينية راسخة كالدول المغاربية والأفريقية التي يشكل المنحدرون منها الأغلبية الساحقة من المهاجرين، ومن الفرنسيين من أصول مهاجرة. وقد ترتب على هذا التجاذب والجدل بزوغ تيارات شعبوية يمينية متطرفة تستثمر سياسياً في قضية الحفاظ على الهوية والعلمانية في وجه ما تعتبره طوفاناً مهدداً لهما من المهاجرين الآتين من الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وذوي الهوية والذاكرة الثقافية المختلفة عن الهوية والثقافة الأوروبية، بصفة عامة، وهذا ما جعل إشكالية الهجرة مرتبطة في الغالب بإشكالية الهوية والاندماج، وهو أيضاً ما نلمسه في كثير من مخرجات الخطاب السياسي والثقافي الفرنسي، وفي مخرجات دور النشر أيضاً بين دفات الكتب المتعلقة بكلتا الظاهرتين. وفي سياق الكتب الصادرة مؤخراً حول إشكالية الهوية في فرنسا وأوروبا يأتي كتاب «الهوية التعيسة» للكاتب آلان فينكيلكرو متضمناً رؤية أكثر شمولية وانفتاحاً لهذه المشكلة معتبراً أن علينا التمييز بين القيم التي يمكن التفكير في فرضها على الغير، وتلك التي يمكن احتواؤها والتعامل معها ضمن الخصوصيات غير القابلة للتغيير أو التحوير في هوية الآخر. وليس سراً أن أوروبا اليوم أيضاً ليست هي أوروبا أمس، فضعف الخصوبة وتراجع معدلات الزيادة السكانية في العديد من دول القارة العجوز هما ما دفع أصلاً لاستقبال المهاجرين، وهؤلاء المهاجرون ذوو هويات يصعب أن يطلب منهم التخلي عنها، أو تركها هناك عند الباب، والدخول منزوعي الثقافة والهوية لكي تعيد أوروبا تشكيل هوياتهم على الطريقة التي تلائمها. وليست السجالات الطويلة العريضة التي عرفتها فرنسا حول قضية الحجاب مثلاً إلا نموذجاً بيّناً لما يكن أن يقع من أشكال سوء تفاهم بين مجتمعات المهاجرين ومجتمعات الاستقبال الأوروبية. وهو سوء تفاهم فعلاً لأن المهاجرين المسلمين لا يفهمون كيف يمكن أن يصبح الحجاب مشكلة من الأساس، والمجتمعات الأوروبية المستقبلة لا تفهم هي أيضاً كيف أن واقعها الاجتماعي قد تغير فعلاً، وأن عليها التكيف مع متغيرات وضعها الديموغرافي والثقافي الجديد. وفي أراضي الدول المسلمة لا يلفت الحجاب الانتباه أصلاً بحكم العادة، في حين أنه يلفتها حقاً ويثير الانتباه في المجتمعات الأوروبية بحكم انتفاء العادة والألفة، وهو ما يتم إخراجه تحت تبريرات إيديولوجية أو ثقافية من قبيل الدفاع عن قيم العلمانية في المدرسة العمومية التي تقتضي جعلها مكاناً محايداً، وبعيداً عن كافة أشكال الرموز الدينية الظاهرة للعيان. ويرى الكاتب أن المطالبة الأوروبية باندماج المهاجرين في مجتمعات الاستقبال مثلما أنها لا تعني بالضرورة فصلهم عن العناصر الأساسية من هوياتهم وعقائدهم، ليس لزاماً أيضاً أن ننظر إليها على أنها تخريجة شوفينية أو انعزالية من شطحات اليمين المتطرف في القارة الأوروبية، بل إن ثمة مبررات جوهرية لهذا الاندماج، فتراث الشعوب الأوروبية وثقافتها هما أيضاً يستحقان الحفاظ عليهما، من دون أن يؤدي ذلك إلى تمركز حول الذات أو تقوقع وتشرنق داخل أحكام قيمة غير ملائمة من قبيل النظر إلى الذات الأوروبية وكأنها أعلى أو أرقى من ذوات أو ثقافات الآخرين. والمفارقة في فشل وإخفاق بعض المهاجرين في تبني الثقافة الأوروبية على رغم إقامتهم في القارة أن الثقافة الإنسانية عموماً لم تكن يوماً أيسر انتقالاً بين الأفراد والشعوب بقدرما هي اليوم، بحكم تحول العالم إلى قرية واحدة، وكذلك بسبب ثورة عوالم الاتصال والسمعيات البصرية التي تجعل كل فرد في العالم قادراً على رؤية ثقافة الآخر عبر الشاشات، ودون حاجة أصلاً إلى تجارب وخبرات عملية. وبين دفتي كتابه الواقع في 240 صفحة يقدم المؤلف ما يعتبره حلولاً ديمقراطية جذرية لإشكاليات الهجرة والاندماج والهوية والأنا والآخر في السياق الأوروبي الراهن، وذلك ضمن مقاربات وقواعد لعبة التعايش والمساكنة داخل مجتمع ديمقراطي، يعترف للأفراد بحقوقهم وهوياتهم، ويحفظ أيضاً للبلد في عمومه ثقافته وذاته، ولا يفتعل تعارضاً أو تناقضاً بين ثقافتين إنسانيتين غير متعارضتين أساساً هما الثقافة الأوروبية وثقافات المهاجرين الآتين من خارج حدود القارة. حسن ولد المختار ----- الكتاب: الهوية التعيسة المؤلف: آلان فينكيلكرو الناشر: ستوك تاريخ النشر: 2013